قد خفي موقع هذه الآية من الآي التي بعدها؛ لأن الظاهر منها أنها إخبار عن أمر يقع في المستقبل، وأن القبلةَ المذكورةَ فيها هي القبلةُ التي كانت في أول الهجرة بالمدينة، وهي استقبال بيت المقدس، وأن التولي عنها هو نسخها باستقبال الكعبة؛ فكان الشأن أن يترقب طعن الطاعنين في هذا التحويل بعد وقوع النسخ أي بعد الآيات الناسخة لاستقبال بيت المقدس؛ لما هو معلوم من دأبهم من الترصد للطعن في تصرفات المسلمين؛ فإن السورة نزلت متتابعة، والأصل موافقة التلاوة للنزول في السورة الواحدة إلا ما ثبت أنه نزل متأخراً، ويتلى متقدماً.
والظاهر أن المراد بالقبلةِ المحمولةِ القبلةُ المنسوخةُ وهي استقبال بيت المقدس _أعني الشرق_ وهي قبلة اليهود، ولم يشفِ أحدٌ من المفسرين وأصحاب أسباب النزولِ الغليلَ في هذا على أن المناسبة بينها وبين الآي الذي قبلها غير واضحة؛ فاحتاج بعض المفسرين إلى تكلُّف إبدائها.
والذي استقر عليه فهمي أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبة بديعة، وهي أن الآياتِ التي قبلها تكرر فيها التنويهُ بإبراهيمَ وملتِهِ والكعبةِ، وأن من يرغب عنها قد سَفِهَ نَفْسَهُ؛ فكانت مثاراً لأن يقول المشركون: ما ولَّى محمداً وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة أي استقبال الكعبة مع أنه يقول: إنه على ملة إبراهيم، ويأبى عن اتباع اليهودية والنصرانية؛ فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس؟ ولأنه قد تكررت الإشارة في الآيات السابقة إلى هذا الغرض بقوله: [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ] وقوله: [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] كما ذكرناه هنالك.
وجوز ابن عطية أن يعود إلى القرآن الذي يتضمنه فعل (علمناه) فجعل جملة: [وَمَا يَنْبَغِي لَه] بمنزلة التعليل لجملة: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ].
ومعنى: [وَمَا يَنْبَغِي لَه] ما يتأتى له الشعر، وقد تقدم عند قوله _تعالى_: [وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً] تفصيل ذلك في سورة مريم، وتقدم قريباً عند قوله: [لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ].
فأصل معنى: (ينبغي) يستجيب للبغي، أي الطلب، وهو يشعر بالطلب الملح.
ثم غلب في معنى يتأتى ويستقيم؛ فتنوسي منه معنى المطاوعة وصار (ينبغي) بمعنى يتأتى يقال: لا ينبغي كذا، أي لا يتأتى.
قال الطيبي: رُوِيَ عن الزمخشري أنه قال في كتاب سيوبيه: =كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعة على الانفعال: كضرب وطلب وعَلِم، وما ليس فيه علاج: كعَدِم وفقَد لا يأتي في مطاوعة الانفعال البتة+ ا هـ.
ومعنى كون الشعر لا ينبغي له: أن قول الشعر لا ينبغي له؛ لأن الشعر صنف من القول له موازينُ وقوافٍ، فالنبي"منزه عن قرض الشعر وتأليفه، أي ليست من طباع ملكته إقامة الموازين الشعرية، وليس المراد أنه لا ينشد الشعر؛ لأن إنشادَ الشعرِ غيرُ تَعَلُّمِه، وكم من رواية للأشعار ومن نَقَّاد للشعر لا يستطيع قول الشعر وكذلك كان النبي"قد انتقد الشعر، ونبه على بعض مزايا فيه، وفضَّل بعض الشعراء على بعض وهو مع ذلك لا يقرض شعراً.
وربما أنشد البيت، فغفل عن ترتيب كلماته، فربما اختل وزنه في إنشاده(١)
أتجعل نهبي ونهب العُبيـ | ـد بين عيينة والأقرع |
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فقال =ويأتيك من لم تزود بالأخبار+.
وربما أنشد البيت دون تغيير كما أنشد بيت ابن رواحة:
يبيت يجافي جنبه عن فراشه | إذا استثقلت بالمشركين المضاجع |
ولقد أَبيتُ على الطوَى وأَظَلُّه | كيما أنال به شهيّ المطعم |