وقد علم الله ذلك منهم فأنبأ رسوله بقولهم، وأتى فيه بهذا الموقع العجيب وهو أَنْ جَعَلَه بعد الآيات المشيرة له، وقبل الآيات التي أنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة؛ لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلاً بعد مقالة المشركين، فيشمخوا بأنوفهم يقولون غَيَّر محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه؛ فكان لموضع هذه الآية هنا أفضلَ تَمَكُّنٍ، وأوثقَ ربطٍ.
وبهذا يظهر وجهُ نزولها قبل آية النسخ وهي قوله: [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ] الآيات؛ لأن مقالةَ المشركين أو توقُّعَها حاصلٌ قبل نسخ استقبال بيت المقدس، وناشئٌ عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة.
فالمراد بالسفهاء المشركون، ويدل لذلك تبيينه بقوله: [مِنْ النَّاسِ] فقد عرف في اصطلاح القرآن النازل بمكة أن لفظ الناس يراد به المشركون _كما روي ذلك عن ابن عباس_.
ولا يظهر أن يكون المراد به اليهود أو أهل الكتاب؛ لأنه لو كان ذلك لناسب أن يقال: سيقولون بالإضمار؛ لأن ذكرهم لم يزل قريباً من الآية السابقة إلى قوله: [وَلاَ تُسْأَلُوْنَ] الآية. ٢/٥_٦
٨٤_ والسفهاء: جمع سفيه الذي هو صفة مشبهة من سَفُه بضم الفاء إذا صار السفهُ له سجيةً، وتقدم القولُ في السفه عند قوله _تعالى_: [وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ].
وفائدة وصفهم بأنهم من الناس مع كونه معلوماً هو التنبيه على بلوغهم الحدَّ الأقصى من السفاهة بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء؛ فإذا قُسِّمَ نوعُ الإنسان أصنافاً كان هؤلاء صنفَ السفهاء؛ فَيُفْهَمُ أنه لا سفيه غيرهم على وجه المبالغة، والمعنى أن كل من صدر منه هذا القول هو سفيه سواء كان القائل اليهود أو المشركين من أهل مكة. ٢/٧
وذلك من تمام المنافرة بين ملكة بلاغته وملكة الشعراء، ألا ترى أنه لم يكن مطرداً فربما أنشد البيت موزوناً.
هذا من جانب نظم الشعر وموازينه، وكذلك _أيضاً_ جانب قوام الشعر ومعانيه فإن للشعر طرائقَ من الأغراض كالغزل والنسيب والهجاء والمديح والملح، وطرائق من المعاني كالمبالغة البالغة حد الإغراق، وكادعاء الشاعر أحوالاً لنفسه في غرام أو سير أو شجاعة هو خلو من حقائقها؛ فهو كذب مغتفر في صناعة الشعر، وذلك لا يليق بأرفع مقامٍ لكمالات النفس، وهو مقام أعظم الرسل _صلوات الله عليه وعليهم_ فلو أن النبي"قرض الشعر، ولم يأتِ في شعره بأفانين الشعراء لَعُدَّ غضاضةً في شعره، وكانت تلك الغضاضةُ داعيةً للتناول من حرمة كماله في أنفس قومه يستوي فيها العدو والصديق.
على أن الشعراء في ذلك الزمان كانت أحوالهم غيرَ مَرضِيَّةٍ عند أهل المروءة والشرف؛ لما فيهم من الخلاعة والإقبال على السكر والميسر والنساء ونحو ذلك. وحسبك ما هو معلوم من قضية خلع حجر الكندي ابنه امرأ القيس وقد قال _تعالى_: [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ]الآيةَ.
فلو جاء الرسول"بالشعر أو قاله لرمقه الناس بالعين التي لا يرمق بها قدره الجليل وشرفه النبيل.
والمنظور إليه في هذا الشأن هو الغالب الشائع وإلا فقد قال النبي": =إن من الشعر لحكمة+ وقال: =أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ماخلا الله باطل+
فتنزيه النبي"عن قول الشعر من قبيل حياطة معجزة القرآن، وحياطه مقام الرسالة مثل تنزيهه عن معرفة الكتابة.
قال أبو بكر بن العربي: هذه الآية ليست من عيب الشعر كما لم يكن قوله _تعالى_: [وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ] من عيب الخط، فلما لم تكن الأمية من عيب الخط كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي"من عيب الشعر.


الصفحة التالية
Icon