وهذا يدل على أن استقبال بيت المقدس شرط في الصلاة في دين اليهود، وقصاراه الدلالة على أن التوجه نحو بيت المقدس بالصلاة والدعاء هيئة فاضلة؛ فلعل بني إسرائيل التزموه لا سيما بعد خروجهم من بيت المقدس أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحي من الله. ٢/٩
٨٧_ وأما استقبال الكعبة في الحنيفية فالظاهر أن إبراهيم _عليه السلام_ لما بنى الكعبة استقبلها عند الدعاء، وعند الصلاة؛ لأنه بناها للصلاة حولها؛ فإن داخِلَها لا يسع الجماهير من الناس وإذا كان بناؤها للصلاة حولها فهي أول قبلة وضعت للمصلي تجاهها، وبذلك اشتهرت عند العرب، ويدل عليه قول زيد ابن عمرو بن نفيل:

عذت بما عاذ به إبراهِمْ مستقبل الكعبة وهو قائم
أما توجهه إلى جهتها من بلد بعيد عنها فلا دليل على وقوعه؛ فيكون الأمر بالتزام الاستقبال في الصلاة من خصائص هذه الشريعة، ومن جملة معاني إكمال الدين بها _كما سنبينه_. ٢/١٠
٨٨_ فتحويل القبلة كان في رجب سنة اثنتين من الهجرة قبل بدر بشهرين، وقيل: يوم الثلاثاء نصف شعبان منها. ٢/١١
٨٩_ والوَسَط: اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به، أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفاً، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة؛ طبعاً كوسط الوادي لاتصل إليه الرعاة والدواب إلا بعد أكل ما في الجوانب؛ فيبقى كثير العشب والكلأ، ووضعاً كوسط المملكة يجعل مَحَلَّ قاعدتِها، ووسط المدينة يُجْعل موضع قصبتها؛ لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة، وكواسطة العقد لأنفسِ لُؤلؤة فيه؛ فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفاً؛ فأطلقوه على الخيار النفيس؛ كنايةً قال زهير:
هُمُ وسَطٌ يَرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل
وقال تعالى: [قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ].
ومذاكرتُهم فيما كان يجري بينهم وبين بعض المشركين من أصحابهم في الجاهلية، ومحاولتُهم صرفَهم عن الإسلام.
ثم انْتُقِل إلى تنظير دعوةِ محمدٍ"قوَمهُ بدعوةِ الرسل مِنْ قَبْلِه، وكيف نَصَرَ اللهُ رسلَه، ورَفَع شأنَهم، وبارك عليهم.
وأُدمج في خلال ذلك شيءٌ من مناقبهم، وفضائلهم، وقُوَّتِهم في دين الله وما نجاهم الله من الكروب التي حفَّت بهم، وخاصةً منقبةُ الذبيحِ، والإشارة إلى أنه إسماعيلُ.
وَوَصْفُ ما حلَّ بالأمم الذين كذبوهم.
ثم الإنحاءُ على المشركين فسادَ معتقداتِهم في الله، ونِسْبتَهم إليه الشركاء.
وقولهم: الملائكةٌ بناتُ اللهِ، وتكذيبُ الملائكة إياهم على رؤوس الأشهاد.
وقولهم في النبي" والقرآن، وكيف كانوا يودون أن يكون لهم كتاب.
ثم وَعْدُ اللهِ رسولَه بالنصر كدأْب المرسلين ودأْب المؤمنين السابقين، وأن عذابَ اللهِ نازلٌ بالمشركين، وتَخْلُصُ العاقبةُ الحسنى للمؤمنين.
وكانت فاتحتُها مناسبةً لأغراضها بأن القَسَمَ بالملائكة مناسبٌ لإثبات الوحدانية؛ لأن الأصنامَ لم يدَّعوا لها ملائكةً، والذي تخدمه الملائكةُ هو الإلهُ الحق، ولأن الملائكةَ من جملة المخلوقاتِ الدالِّ خَلْقُها على عظم الخالق، ويُؤْذِنُ القسمُ بأنها أشرفُ المخلوقاتِ العلوية.
ثم إن الصفاتِ التي لوحظت في القسم بها مناسبةٌ للأغراض المذكورة بعدها، فـ[الصَّافَّاتِ] يناسب عَظَمَةَ ربِّها، و[الزَّاجِرَاتِ] يناسب قَذْفَ الشياطين عن السماوات، ويناسب تسييرَ الكواكبِ وحفظِها من أن يدرك بعضُها بعضاً، ويناسب زَجْرُها الناسَ في المحشر.
و[التَّالِيَاتِ ذِكْراً] يناسب أحوالَ الرسولِ، والرسل _ عليهم الصلاة والسلام _ وما أرسلوا به إلى أقوامهم.


الصفحة التالية
Icon