وجيء بكلمة (شيء) تهويناً للخبر المفجع، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة، كما في قوله: [فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ].
ولذلك جاء هنا بكلمة (شيء) وجاء هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن، وهو أَنِ استعار لها اللباس الملازم للابس؛ لأن كلمة شيء من أسماء الأجناس العالية العامة، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بُينت به _ عُلم أن المتكلم ما زاد كلمة شيء قبل اسم ذلك الجنس إلا لقصد التقليل؛ لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غناءها؛ فما ذكر كلمة شيء إلا والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم، ولا للتنويع؛ فبقى له الدلالة على التحقير. ٢/٥٤_٥٥
٩٤_ ووصف الصابرين بأنهم [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا] إلخ، لإفادة أن صبرهم أكمل الصبر؛ إذ هو صبر مقترن ببصيرة في أمر الله _تعالى_ إذ يعلمون عنه المصيبة أنهم ملك لله _تعالى_ يتصرف فيهم كيف يشاء؛ فلا يجزعون مما يأتيهم، ويعلمون أنهم صائرون إليه؛ فيثيبهم على ذلك؛ فالمراد من القول هنا القول المطابق للاعتقاد؛ إذ الكلام إنما وضع للصدق، وإنما يكون ذلك القول معتبراً إذا كان تعبيراً عما في الضمير؛ فليس لمن قال هاته الكلمات بدون اعتقاد لها فضل، وإنما هو كالذي ينعق بما لا يسمع، وقد علمهم الله هذه الكلمة الجامعة؛ لتكون شعارهم عند المصيبة؛ لأن الاعتقاد يقوى بالتصريح؛ لأن استحضار النفس للمدركات المعنوية ضعيف يحتاج إلى التقوية بشيء من الحس، ولأن في تصريحهم بذلك إعلانا لهذا الاعتقاد، وتعليماً له للناس. ٢/٥٧
٩٥_ وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبئ عن محبة الخير لأحد، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء. ٢/٥٧_٥٨
وأيضاً ذلك كانت البشارة به بمحضر سارة أمه وقد جعلت هي المبشرة في قوله _تعالى_: [فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (٧١) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً].
فتلك بشارة كرامة والأولى بشارة استجابة دعائه، فلما ولد له إسماعيل تحقق أمل إبراهيم أن يكون له وارث من صلبه.
فالبشارة بإسماعيل لما كانت عقب دعاء إبراهيم أن يهب الله له من الصالحين عُطفت هنا بفاء التعقيب، وبشارته بإسحاق ذكرت في هذه السورة معطوفاً بالواو عطف القصة على القصة. ٢٣/١٤٩
٥_ والفاء في [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ] فصيحة؛ لأنها مفصحة عن مقدر، تقديره: فولد له، ويفع، وبلغ السعي، فلما بلغ السعي قال يا بني الخ، أي بلغ أن يسعى مع أبيه، أي بلغ سن من يمشي مع إبراهيم في شؤونه. ٢٣/١٤٩_١٥٠
٦_ وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمرُ ابتلاء.
وليس المقصود به التشريع؛ إذ لو كان تشريعاً لما نسخ قبل العمل به؛ لأن ذلك يفيت الحكمة من التشريع بخلاف أمر الابتلاء.
والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزمه وإثبات علو مرتبته في طاعة ربه؛ فإن الولد عزيز على نفس الوالد، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشد عزة على نفسه لا محالة، وقد علمتَ أنه سأل ولداً ليرثه نَسْلُه ولا يرثه مواليه؛ فبعد أن أقر الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه، فينعدم نسله، ويخيب أمله ويزول أنسه، ويتولى بيده إعدام أحب النفوس إليه، وذلك أعظم الابتلاء، فقابل أمر ربه بالامتثال، وحصلت حكمة الله من ابتلائه، وهذا معنى قوله _تعالى_: [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ].


الصفحة التالية
Icon