وحكمة تحريم الدم أن شُرْبَه يورث ضراوةً في الإنسان؛ فتغلظ طباعه، ويصير كالحيوان المفترس، وهذا منافٍ لمقصد الشريعة؛ لأنها جاءت لإتمام مكارم الأخلاق، وإبعاد الإنسان عن التهور والهمجية، ولذلك قُيِّدَ في بعض الآيات بالمسفوح أي المهراق؛ لأنه كثير لو تناوله الإنسان اعتاده، ولو اعتاده أورثه ضراوة؛ ولذا عَفَتِ الشريعةُ عما يبقى في العروق بعد خروج الدم المسفوح بالذبح أو النحر، وقاس كثير من الفقهاء نجاسة الدم على تحريم أكله وهو مذهب مالك، ومداركهم في ذلك ضعيفة، ولعلهم رأوا مع ذلك أن فيه قذارة. ٢/١١٨
١٠٨_ والدم معروف مدلوله في اللغة، وهو إفراز من المفرزات الناشئة عن الغذاء، وبه الحياة، وأصل خلقته في الجسد آتٍ من انقلاب دم الحيض في رحم الحامل إلى جسد الجنين بواسطة المصران المتصل بين الرحم وجسد الجنين، وهو الذي يُقْطَع حين الولادة، وتجدده في جسد الحيوان بعد بروزه من بطن أمه يكون من الأغذية بواسطة هضم الكبد للغذاء المنحدر إليها من المعدة بعد هضمه في المعدة، ويخرج من الكبد مع عرق فيها، فيصعد إلى القلب الذي يدفعه إلى الشرايين، وهي العروق الغليظة، وإلى العروق الرقيقة بقوة حركة القلب بالفتح والإغلاق حركة ماكينية هوائية، ثم يدور الدم في العروق متنقلاً من بعضها إلى بعض بواسطة حركة القلب، وتنفس الرئة، وبذلك الدوران يسلم من التعفن؛ فلذلك إذا تعطلت دورته حصةً طويلة مات الحيوان. ٢/١١٨
١٠٩_ وحكمة تحريم لحم الخنزير أنه يتناول القاذورات بإفراط؛ فتنشأ في لحمه دودة مما يقتاته لا تهضمها معدته؛ فإذا أصيب بها آكله قتلته. ٢/١١٩
١١٠_ فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم، وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشئ عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال.
قال ابن العربي: الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز فكيف المسلم فإنه لا يجوز فيمن كان عاصياً أن يُقْتَلَ، ولا أن يُرْمَى به في النار والبحر، وإنما تُجْرَى عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته.
وظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم، فيطرح بعضهم تخفيفاً، وهذا فاسد فلا تخفف برمي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال وإنما يصبرون على قضاء الله.
وكانت في شريعة من قبلنا القرعة جائزة في كل شيء على العموم.
وجاءت القرعة في شرعنا على الخصوص في ثلاثة مواطن: الأول: كان النبي"إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه؛ فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه.
الثاني: أن النبي"رفع إليه أن رجلاً أعتق في مرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع بين اثنين (وهما معادل الثلث) وأرق أربعة.
الثالث: أن رجلين اختصما إليه في مواريث درست، فقال: =اذهبا، وتوخيا الحق واسْتَهِمَا وليحللْ كلُّ واحد منكما صاحبه+. ٢٣/١٧٣_١٧٥
١٢_ فحرف (أو) في قوله: [أَوْ يَزِيدُونَ] بمعنى (بل) على قول الكوفيين واختيار الفراء وأبي علي الفارسي وابن جني وابن برهان(١).
واستشهدوا بقول جرير:

ماذا ترى في عيال قد برمت بهم لم أحص عدتهم إلا بعداد
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية لولا رجاؤك قد قتلت أولادي
والبصريون لا يجيزون ذلك إلا بشرطين أن يتقدمها نفي أو نهي، وأن يعاد العامل، وتأولوا هذه الآية بأن (أو) للتخيير، والمعنى إذا رآهم الرائي تخير بين أن يقول: هم مائة ألف، أو يقول: يزيدون.
ويرجحه أن المعطوف بـ(أو) غير مفرد بل هو كلام مبين ناسب أن يكون الحرف للإضراب. ٢٣/١٧٩_١٨٠
(١) _ بفتح الباء الموحدة ممنوعاً من الصرف هو سعيد بن المبارك البغدادي ولد سنة ٤٦٩ وتوفي سنة ٥٥٩.


الصفحة التالية
Icon