وأما العمليات فلا نعدّ منها التدريس في جامع الزيتونة، وإنما نعدّ منها إصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وقد اجتمعت في الأستاذِ وسائلُه، وتكاملت أدواته، من عقل راجح لا يخيس وزنُه، وبصيرة نافذة إلى ما وراء المظاهر الغرَّارة، وفكر غوّاص على حقائق الأشياء، وذكاء تشفُّ له الحُجُب، واطلاع على تاريخنا العلمي في جميع أطواره، واستعدادٍ قوي متمكن للتجديد والإصلاح.
ومن شأن هذه المواهب المتجمعة في أمثال الأستاذ أنها تكمن حتى تُظهرها الحاجة والضرورة، والحاجة إذا ألحَّت كشفت عن رجل الساعة، وأخرجت القائم المنتظر، وقد وُجدت الحاجة إلى الإصلاح في كليتنا، فوُجد الرجل المدّخر، فكان الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور.
وإن تدبير الأحوال الاجتماعية لأقوى وأبقى من تدبير الجماعات، وإن تدبير الجماعات لأَثَرٌ من روح الاجتماع وإن غفل الناس عن ذلك.
تقلّد الأستاذ مشيخةَ الجامعِ للمرة الأولى، فدلّت المصائر على أن التدبير الاجتماعي لم يكمُل، وكان من الظواهر المحسوسة أنها وظيفة جديدة لم يطمئن موطنها، ولم يدمّث موطئها، ولم تهشّ لها النفوس المبتلاة بالتقليد، والمريضةُ بالمنافسة، خصوصاً وهي _في حقيقتها_ نزع للسلطة من جماعة وحصرها في واحد.
والخروج عن المألوفات العادية يراه المجدّدون وضعاً للإصْر، وانطلاقاً من الأسر، ويراه الجامدون فساداً في الأرض وشرطاً من أشراط الساعة.
ثم قُلِّد الأستاذُ مشيخةَ الجامع للمرة الثانية، وكان الأمر قد استتبّ، والنفوس النافرة من التجديد قد اطمأنَّت، والضرورة الداعية إلى الإصلاح قد رَجَحت؛ ومعنى ذلك كله أن التدبير الاجتماعي قد كمل؛ فخبّ الجواد في مضماره، وشع نور ذلك الاستعداد من ناره، وكان ما سرّ نفوس المصلحين من إصلاح وإن لم يبلغ مداه بعد.
لم يرَ جامع الزيتونة في عهوده الأخيرة عهداً أزهر من هذا العهد، ولم يرَ في الرجال المسيرين له رجلاً أقدر على الإصلاح، وأمدّ باعاً من شيخه الحالي.
فكان افتتاحُها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلوا به من أصول الفضائلِ الروحية والعملية التي بها تزكيةُ النفس، واستقامةِ السلوكِ.
وأُعْقِبَ ذلك بوصف خَلْقِ الإنسانِ أصلهِ ونسلهِ الدالِ على تفرد الله _تعالى_ بالإلهية؛ لِتَفَرُّدِه بخلق الإنسان، ونشأتِه؛ لِيَبْتَدِئَ الناظرُ بالاعتبار في تكوين ذاته، ثم بعدَمه بعد الحياة، ودلالةِ ذلك الخلق على إثبات البعث بعد الممات، وأن اللهَ لم يَخْلَقُ الخلقَ سُدَىً ولعباً.
وانْتُقِلَ إلى الاعتبار بخلق السماوات، ودلالته على حكمة الله _تعالى_.
وإلى الاعتبارِ والامتنانِ بمصنوعات الله _تعالى_ التي أصلُها الماءُ الذي به حياة ما في هذا العالم من الحيوان والنبات، وما في ذلك من دقائقِ الصنع، وما في الأنعامِ من المنافع ومنها الحَمْلُ.
ومن تسخير المنافع للناس، وما أوتيه الإنسانُ من آلاتِ الفكرِ والنظرِ.
وَوَرَدَ ذِكْرُ الحَمْلِ على الفُلْك؛ فكان منه تَخَلُّصٌ إلى بعثةِ نوحٍ، وحدثِ الطوفان.
وانْتُقِلَ إلى التذكير ببعثة الرسل للهدى والإرشادِ إلى التوحيدِ والعملِ الصالحِ، وما تلقاها به أقوامُهم من الإعراض والطعنِ والتفرقِ، وما كان من عقاب المكذبين، وتلك أمثالٌ لموعظةِ المعرضين عن دعوة محمد " فَأُعْقِبَ ذلك بالثناء على الذين آمنوا واتقوا.
وبتنبيه المشركين على أن حالَهم مماثلٌ لأحوال الأمم الغابرة وكلمتهم واحدة؛ فهم عُرْضَةٌ لأن يَحُلَّ بهم ما حل بالأمم الماضية المكذبة.
وقد أراهم اللهُ مخائلَ العذابِ لعلهم يقلعون عن العناد، فأصروا على إشراكهم بما ألقى الشيطان في عقولهم.
وذُكِّروا بأنهم يُقِرُّون إذا سئلوا بأن الله مُفْرَدٌ بالربوبية، ولا يَجْرون على مقتضى إقرارهم أنهم سيندمون على الكفر عندما يحضرهم الموتُ وفي يوم القيامة.


الصفحة التالية
Icon