قلت: قال سيبويه في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح: =وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته، مثل ذلك قوله _تعالى_: [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] إلى قوله: [والصَّابِرِينَ] ولو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيداً، ولو ابتدأته فرفعته على الابتداء كان جيداً، ونظير هذا النصب قول الخِرْنِقِ:

لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الذين هُمُوا سُم العُداةِ وآفة الجزْرِ
النازِلينَ بكل مُعْتَرَكٍ والطيِّبون مَعَاقِدَ الأُزْرِ
بنصب النازلين+.
ثم قال: =وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدث الناس، ولا من تخاطب بأمر جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت، فجعلته ثناءً وتعظيماً ونصبه على الفعل كأنه قال أَذْكُرُ أهل ذلك، وأذكر المقيمين، ولكنه فِعْلٌ لا يستعمل إظهاره+ اهـ.
قلت: يؤيد هذا الوجه أنه تكرر مثله في نظائر هذه الآية في سورة النساء [وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ] عطفاً على [لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ]، وفي سورة العقود [وَالصَّابِئُونَ] عطفاً على [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا].
الفائدة الثانية أن في نصب الصابرين بتقدير أخص أو أمدح تنبيهاً على خصيصية الصابرين، ومزية صفتهم التي هي الصبر. ٢/١٣٢_١٣٣
١١٢_ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى].
وإثباتُ البعثِ؛ لحكمة جزاء العاملين بأعمالهم من خير وشر.
وجزاءُ المؤمنين المتقين، وضدُّه مِنْ جزاء الطاغين والذين أضلوهم، وقبَّحوا لهم الإسلامَ والمسلمين، ووصفُ أحوالِهم يوم القيامة.
وذكرُ أولِ غواية حصلت، وأصلِ كلِّ ضلالةٍ وهي غوايةُ الشيطان في قصة السجود لآدم.
وقد جاءت فاتحتُها مناسبةً لجميع أغراضها؛ إذ ابْتُدِئَتْ بالقسم بالقرآن الذي كذَّب به المشركون، وجاء المُقْسَمُ عليه أن الذين كفروا في عزة وشقاق، وكل ما ذكر فيها من أحوال المكذبين سَبَبُهُ اعتزازُهم وشقاقُهم، ومن أحوال المؤمنين سببه ضدُّ ذلك، مع ما في الافتتاح بالقسم من التشويق إلى ما بعده؛ فكانت فاتحتُها مستكملةً خصائصَ حُسْنِ الابتداء. ٢٣/٢٠٣
٣_ وفي تذييل كلامه بقوله: [وَقَلِيلٌ مَا هُمْ] حث لهما أن يكونا من الصالحين؛ لما هو متقرر في النفوس من نفاسة كل شيء قليل، قال _تعالى_: [قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ].
والسبب في ذلك من جانب الحكمة أن الدواعي إلى لذات الدنيا كثيرة، والمشي مع الهوى محبوب ومجاهدة النفس عزيزة الوقوع؛ فالإنسان محفوف بجواذب السيئات، وأما دواعي الحق والكمال فهو الدين والحكمة، وفي أسباب الكمال إعراض عن محركات الشهوات، وهو إعراض عسير لا يسلكه إلا من سما بدينه وهمته إلى الشرف النفساني، وأعرض عن الداعي الشهواني، فذلك هو العلة في هذا الحكم بالقلة. ٢٣/٢٣٦_٢٣٧
٤_ وليس في قول الخصمين: [هَذَا أَخِي] ولا في فرضهما الخصومة التي هي غير واقعة ارتكابُ الكذب؛ لأن هذا من الأخبار المخالفة للواقع التي لا يريد المُخْبِر بها أن يظن المخبَر (بالفتح) وقوعَها إلا ريثما يحل الغرض من العبرة بها ثم ينكشف له باطنها فيعلم أنها لم تقع.
وما يجري في خلالها من الأوصاف والنسب غير الواقع فإنما هو على سبيل الفرض والتقدير، وعلى نية المشابهة.


الصفحة التالية
Icon