ولا شك أن أقوى عنصر في تقويم البشر عند الخِلقة هو العقل المستقيم، فبالعقل تَأَتَّى للبشر أن يتصرف في خصائصه، وأن يضعها في مواضع الحاجة إليها.
هكذا كان شأن الذكر والأنثى؛ فما وَلَدا من الأولاد نشأ مثل نشأتهما في الأحوال كلها، ألم تر كيف اهتدى أحد بني آدم إلى دفن أخيه من مشاهدة فعل الغراب الباحث في الأرض؛ فكان الاستنباط الفكري والتقليدُ به أُسَّّّّ الحضارة البشرية؟!
فالصلاح هو الأصل الذي خلق عليه البشر، ودام عليه دهراً ليس بالقصير، ثم أخذ يرتد إلى أسفل سافلين؛ ذلك أن ارتداد الإنسان إلى أسفل سافلين إنما عرض له بعوارضَ كانت في مبدأ الخليقة قليلة الطُّرُوِّ أو معدومته؛ لأن أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة لا تعدو أربعة أسباب:
الأولى: خلل يعرض عند تكوين الفرد في عقله أو في جسده؛ فينشأ منحرفاً عن الفضيلة لتلك العاهة.
الثاني: اكتساب رذائل من الأخلاق من مخترعات قواه الشهوية والغضبية، ومن تقليد غيره بداعية استحسان ما في غيره من مفاسد يخترعها، ويدعو إليها.
الثالث: خواطر خيالية تحدث في النفس مخالفة لما عليه الناس كالشهوات، والإفراط في حب الذات، أو في كراهية الغير مما توسوس به النفس؛ فيفكر صاحبها في تحقيقها.
الرابع: صدور أفعال تصدر من الفرد بدواع حاجية أو تكميلية، ويجدها ملائمة له أو لذيذة عنده؛ فيلازمها حتى تصير له عادة، وتشتبه عنده بعد طول المدة بالطبيعة؛ لأن العادة إذا صادفت سذاجة من الفعل غير بصيرة بالنواهي رسخت، فصارت طبعاً.
فهذه أربعة أسباب للانحطاط عن الفطرة الطيبة، والأول كان نادر الحدوث في البشر؛ لأن سلامة الأبدان، وشباب واعتدال الطبيعة وبساطة العيش، ونظام البيئة كل تلك كانت موانع من طُرُوِّ الخلل التكويني، ألا ترى أن نوع كل حيوان يلازم حال فطرته؛ فلا ينحرف عنها باتباع غيره؟
ومن رشاقة ألفاظ القرآن إيثار كلمة (شرح) للدلالة على قبول الإسلام؛ لأن تعاليم الإسلام وأخلاقه وآدابه تكسب المسلم فرحاً بحاله، ومسرة برضى ربه، واستخفافاً للمصائب والكوارث؛ لجزمه بأنه على حق في أمره، وأنه مثاب على ضره، وأنه راجٍ رحمةَ ربه في الدنيا والآخرة، ولعدم مخالطة الشك والحيرة ضميره.
فإن المؤمن أول ما يؤمن بأن الله واحد وأن محمداً"رسوله _ ينشرح صدره بأنه ارتفع درجاتٍ عن الحالة التي كان عليها حالة الشرك إن اجتنب عبادة أحجار هو أشرف منها، ومعظم ممتلكاته أشرف منها كفرسه، وجَمَلِه، وعَبْدِه، وأَمَتِه، وماشيته، ونخله؛ فشعر بعزة نفسه مرتفعاً عما انكشف له من مهانتها السابقة التي غسلها عنه الإسلامُ، ثم أصبح يقرأ القرآنَ وينطق عن الحكمة، ويتَّسم بمكارم الأخلاق، وأصالة الرأي، ومحبة فعل الخير؛ لوجه الله، لا للرياء والسمعة، ولا ينطوي باطنه على غل ولا حسد ولا كراهية في ذات الله وأصبح يُعد المسلمين لنفسه إخواناً، وقد ترك الاكتساب بالغارة والميسر، واستغنى بالقناعة عن الضراعة إلا إلى الله _تعالى_ وإذا مسه ضرُّ رجا زواله ولم ييأس من تغير حاله، وأيقن أنه مثاب على تحمله وصبره، وإذا مسته نعمةٌ حمد ربه وترقَّب المزيد؛ فكان صدره منشرحاً بالإسلام متلقياً الحوادث باستبصار غير هياب شجاع القلب عزيز النفس. ٢٣/٣٧٩_٣٨٠
١٠_ ومعنى كون القرآن أحسن الحديث: أنه أفضل الأخبار؛ لأنه اشتمل على أفضل ما تشتمل عليه الأخبار من المعاني النافعة والجامعة لأصول الإيمان، والتشريع، والاستدلال، والتنبيه على عظم العوالم والكائنات، وعجائب تكوين الإنسان، والعقل، وبث الآداب، واستدعاء العقول للنظر والاستدلال الحق، ومن فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه البالغَيْن حد الإعجاز، ومن كونه مصدقاً لما تقدمه من كتب الله، ومهيمناً عليها.
وفي إسناد إنزاله إلى الله استشهاد على حسنه حيث نزّله العليم بنهاية محاسن الأخبار والذكر. ٢٣/٣٨٥


الصفحة التالية
Icon