٦_ وقد دلت هذه الآية على أن من القرآن محكماً ومتشابهاً، ودلت آيات أخر على أن القرآن كله محكم، قال _تعالى_: [كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ].
وقال: [تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ].
والمراد أنه أحكم وأتقن في بلاغته، كما دلت آيات على أن القرآن كله متشابه، قال _تعالى_: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً].
والمعنى أنه تشابه في الحسن والبلاغة والحقيَّة، وهو معنى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً].
فلا تعارض بين هذه الآيات: لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات. ٣/١٥٦
٧_ وليس من المتشابه ما صرح فيه بأنا لا نصل إلى علمه كقوله: [قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي]ولا ما صرح فيه بجهل وقته كقوله [لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً].
وليس من المتشابه ما دل على معنى يعارض الحمل عليه دليل آخر منفصل عنه؛ لأن ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين، أو ترجيح أحدهما على الآخر، مثل قوله _تعالى_ خطاباً لإبليس: [وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ] الآية في سورة الإسراء مع ما في الآيات المقتضية [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ] و[اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ]. ٣/١٥٨_١٦٠
٨_ فزيغ القلب يتسبب عن عوارض تعرض للعقل: من خلل في ذاته، أو دواع من الخلطة أو الشهوة، أو ضعف الإرادة، تَحُولُ بالنفس عن الفضائل المتحلية بها إلى رذائل كانت تهجس بالنفس، فتذودها النفس عنها بما استقر في النفس من تعاليم الخير المسماة بالهدى.
وإذا صحَّ أن آية: [وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا] نزلت في انحباس المطر عن أهل مكة _كما قال مقاتل_ تكون السورة نزلت في حدود سنة ثمان بعد البعثة، ولعل نزولها استمر إلى سنة تسع بعد أن آمن نقباء الأنصار ليلة العقبة، فقد قيل: إن قوله: [وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] أريد به الأنصار قبل هجرة النبي"إلى المدينة.
وعدت آيها عند أهل المدينة ومكة والشام والبصرة خمسين، وعند أهل الكوفة ثلاثاً وخمسين. ٢٥/٢٣_٢٤
٢_ أغراضُ هذه السورة: أولُ أغراضِها الإشارةُ إلى تحدي الطاعنين في أن القرآن وحيٌ مِنَ اللهِ بأن يأتوا بكلام مثله؛ فهذا التحدي لا تخلو عنه السور المفتتحة بالحروف الهجائية المقطعة _كما تقدم في سورة البقرة_.
واستدل اللهُ على المعاندين بأن الوحي إلى محمد"ما هو إلا كالوحي إلى الرسل من قبله؛ لِيُنْذِرَ أهلَ مكةَ ومَنْ حولَها بيوم الحساب.
وأن الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض لا تُعَارَضُ قدرتُه، ولا يُشَكُّ في حكمته، وقد خَضَعَتْ له العوالمُ العليا ومَنْ فيها، وهو فاطرُ المخلوقات؛ فهو يجتبي من يشاء لرسالته؛ فلا بِدْعَ أن يشرع للأمة المحمدية من الدين مِثْلَ ما شرع لمن قبله من الرسل، وما أرسل اللهُ الرسلَ إلا مِنَ البشرِ يوحي إليهم؛ فلم يَسْبِقْ أَنْ أرسل ملائكةً لمخاطبة عمومِ الناس مباشرةً.
وأن المشركين بالله لا حجة لهم إلا تقليدُ أئمةِ الكفر الذين شرعوا لهم الإشراكِ، وألقوا إليهم الشبهات.
وحذَّرهم يومَ الجزاء، واقترابَ الساعة، وما سيلقى المشركون يوم الحساب من العذاب مع إدماجِ التعريضِ بالترغيب فيما سيلقاه المؤمنون من الكرامة، وأنهم لو تَدَّبروا لعلموا أن النبيَّ"لا يأتي عن الله مِنْ تلقاء نفسه؛ لأن الله لا يقره على أن يقول عليه ما لم يقله.


الصفحة التالية
Icon