ولا يدري المؤمن، ولا العاقل، ولا الحكيم، ولا المهذب: أَيَّة ساعة تحل فيها به أسباب الشقاء، وكذلك لا يدري الشقي، ولا المنهمك، الأَفِن: أَيَّة ساعةٍ تَحُفُّ فيها به أسباب الإقلاع عما هو مُتَلَبَّس به من تغير خَلْق، أو خُلُق، أو تبدل خليط، قال _تعالى_: [وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ].
ولذا كان دأبُ القرآنِ قَرْنَ الثناءِ بالتحذير، والبشارة بالإنذار. ٣/١٧٠
٩_ وقوله: [وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً] طلبوا أثر الدوام على الهدى وهو الرحمة في الدنيا والآخرة، ومنع دواعي الزيغ والشر.
وجُعلتِ الرحمةُ من عند الله؛ لأن تيسيرَ أسبابِها، وتكوينَ مهيئاتها بتقدير الله؛ إذ لو شاء الله لكان الإنسان مُعَرَّضاً لنزول المصائب والشرور في كل لمحة؛ فإنه محفوفٌ بموجودات كثيرة، حية وغير حية، هو تلقائها في غاية الضعف لولا لطف الله به بإيقاظ عقله؛ لاتقاء الحوادث، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه، وبجعل تلك القوى الغالبة له قوى عمياء لا تهتدي سبيلاً إلى قصده، ولا تصادفه إلا على سبيل الندور.
ولهذا قال _تعالى_: [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ].
ومن أجلى مظاهرِ اللطفِ أحوالُ الاضطرارِ والالتجاءِ، وقد كنت قلت كلمة: اللطف عند الاضطرار. ٣/١٧٠
١٠_ وكان إصلاحُ الاعتقادِ أَهمَّ ما ابتدأ به الإسلام، وأكثر ما تعرض له؛ وذلك لأن إصلاح الفكرة هو مبدأ كل إصلاح؛ ولأنه لا يرجى صلاح لقوم تلطَّخت عقولهم بالعقائد الضالة، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائدِ المثيرةِ خوفاً من لا شيء، وطمعاً في غير شيء.
وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي؛ لأن المرء إنسان بروحه لا بجسمه.
ثم نشأ عن هذا الاعتقاد الإسلامي: عزة النفس، وأصالة الرأي، وحرية العقل، ومساواة الناس فيما عدا الفضائل.
وذُكِرَتْ دلائلُ الوحدانيةِ، وما هو من تلك الآيات؛ نعمةً على الناس مثل دليل السير في البحر، وما أوتيه الناسُ مِنْ نِعَمِ الدنيا.
وتسليةُ الرسولِ"بأن الله هو مُتَولي جزاءِ المكذبين وما على الرسول"من حسابهم من شيء؛ فما عليه إلا الاستمرار على دعوتهم إلى الحق القويم.
ونبَّههم إلى أنه لا يبتغي منهم جزاءً على نصحه لهم، وإنما يبتغي أن يراعوا أواصر القرابة بينه وبينهم.
وذكَّرهم نِعَمَ اللهِ عليهم، وحذَّرهم من التسبب في قطعها بسوء أعمالهم، وحرَّضهم على السعي في أسباب الفوز في الآخرة، والمبادرةِ إلى ذلك قبل الفوات؛ فقد فاز المؤمنون المتوكلون، ونوَّه بجلائل أعمالهم، وتَجَنُّبِهم التعرضَ لغضب الله عليهم.
وتخلل ذلك تنبيهٌ على آياتٍ كثيرةٍ من آيات انفراده _تعالى_ بالخلق والتصرف المقتضي إنفرادَهُ بالإلهية؛ إبطالاً للشرك.
وخَتَمَها بتجَدُّد المُعجزة الأميةِ بأن الرسول"جاءهم بهدىً عظيمٍ من الدين وقد علموا أنه لم يكن ممن تصدى لذلك في سابق عمره، وذلك أكبر دليل على أن ما جاء به أمر قد أوحي إليه به؛ فعليهم أن يهتدوا بهديه؛ فمن اهتدى بهديه فقد وافق مراد الله.
وختم ذلك بكلمة جامعة تتضمن التفويض إلى الله، وانتظار حُكْمِهِ وهي كلمةُ [أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ]. ٢٥/٢٤_٢٥
٣_ [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (١١)] خبر ثالث أو رابع عن الضمير في قوله: [وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
وموقع هذه الجملة كالنتيجة للدليل؛ فإنه لما قدم ما هو نعم عظيمة تبين أن الله لا يماثله شيء من الأشياء في تدبيره وإنعامه.