١٨_ والبر: كمال الخير وشموله في نوعه؛ إذ الخير قد يعظم بالكيفية، وبالكمية، وبهما معاً؛ فبذل النفس في نصر الدين يعظم بالكيفية في ملاقاة العدو الكثير بالعدد القليل، وكذلك إنقاذ الغريق في حالة هول البحر، ولا يتصور في مثل ذلك تعدد(١) وإطعام الجائع يعظم بالتعدد، والإنفاق يعظم بالأمرين جميعاً، والجزاء على فعل الخير إذا بلغ كمال الجزاء وشموله كان براً _أيضاً_. ٤/٥
١٩_ و[بكة]: اسم مكة، وهو لغة بإبدال الميم باء في كلمات كثيرة عدت من المترادف: مثل لازب في لازم، وأربد وأرمد أي في لون الرماد.
وفي سماع ابن القاسم من العُتَبِية عن مالك: أن بكة بالباء اسم موضع البيت، وأن مكة بالميم اسم بقية الموضوع؛ فتكون باء الجر هنا لظرفية مكان البيت خاصة، لا لسائر البلد الذي فيه البيت.
والظاهر عندي أن بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علماً على المكان الذي عَيَّنَهُ لسكنى ولده بِنِيَّة أن يكون بلداً؛ فيكون أصله من اللغة الكلدانية: لغة إبراهيم، ألا ترى أنهم سموا مدينة (بعلبك) أي بلد بعل، وهو معبود الكلدانيين.
ومن إعجاز القرآن هذا اللفظ عند ذكر كونه أولَّ بيتٍ؛ فلاحظ _أيضاً_ الاسم الأول، ويؤيد قوله: [رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ] وقوله: [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً]. وقد قيل: إن بكة مشتق من البك، وهو الازدحام، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم. ٤/١٢_١٣

(١) _ قد يتصور في ذلك تعدد، كحال من ينقذ أكثر من غريق في حالة هول البحر، وقد وقع ذلك في حادثة غرق الباخرة المصرية (السلام ٩٨) في ٤/١/١٤٢٧هـ حيث أنقذ بعضُ ركَّابها الأشاوس ممن أعرفهم في بلدنا الزلفي عدداً كبيراً من الركاب الذين أشرفوا على الهلاك. (م)

٢_ أغراضها: أعظمُ ما اشتملت عليه هذه السورةُ من الأغراض: التحديْ بإعجازِ القرآن؛ لأنه آيةُ صدقِ الرسول"فيما جاء به، والتنويهُ بهِ عِدةَ مرات، وأنه أوحى الله به؛ لتذكيرهم، وتكريرِ تذكيرِهم وإن أعرضوا كما أعرض مَنْ قَبْلَهُمْ عن رسلهم.
وإذ قد كان باعثُهم على الطعنِ في القرآن تَعَلُّقَهُمْ بعبادة الأصنام التي نهاهم القرآن عنها _ كان من أهمِّ أغراضِ السورةِ التعجيبُ من حالهم؛ إذ جمعوا بين الاعتراف بأن اللهَ خالقُهم والمنعمُ عليهم وخالقُ المخلوقات كلِّها وبين اتخاذِهم آلهةً يعبدونها شركاءَ لله، حتى إذا انتقض أساسُ عنادِهم اتضح لهم ولغيرهم باطِلُهم.
وجعلوا بناتٍ لله مع اعتقادهم أن البناتِ أحطُّ قدراً من الذكور؛ فجمعوا بذلك بين الإشراك والتنقيص.
وإبطالُ عبادةِ كلِّ ما دون الله على تفاوتِ درجاتِ المعبودين في الشرف؛ فإنهم سواءٌ في عدم الإلهية للألوهية ولِبُنُوَّة الله _تعالى_.
وعرَّج على إبطال حججهم ومعاذيرهم، وسفَّه تخييلاتِهم وَتُرَّهاتهم.
وذكَّرهم بأحوال الأمم السابقين مع رسلهم، وأنذرهم بمثل عواقبهم، وحذَّرهم من الاغترار بإمهال الله وخص بالذكر رسالةَ إبراهيمَ وموسى وعيسى _عليهم السلام_.
وخصَّ إبراهيمَ بأنه جعل كلمةَ التوحيدِ باقيةً في جَمْعٍ مِنْ عَقِبِه، وتوعَّد المشركين، وأنذرهم بعذاب الآخرة بعد البعث الذي كان إنكارُهم وقُوعَهُ من مُغَذِّيات كُفْرِهم وإعراضهم؛ لاعتقادهم أنهم في مَأْمَنٍ بعد الموت.
وقد رُتِّبت هذه الأغراضُ وتفاريعُها على نَسْجٍ بديعٍ، وأسلوبٍ رائعٍ في التقديم والتأخير، والأصالة والاستطراد على حسب دواعي المناسباتِ التي اقتضتها البلاغةُ، وتجديدُ نشاط السامع لقبول ما يلقى إليه.
وتخلل في خلاله من الحجج والأمثال والمُثُل والقوارع والترغيب والترهيب شيء عجيب، مع دحْضِ شُبَهِ المعاندين بأفانينِ الإقناعِ بانحطاط مِلَّةِ كُفْرِهم وعَسْفِ مُعْوَجِّ سلوكهم.


الصفحة التالية
Icon