وقد خطر لي في بداية الأمر أن أُرَتِّب تلك النقول المنتقاة، وذلك بتصنيف الفوائد، وترتيبها، على حسب الفنون؛ فَيُفْرَدَ فَصْلٌ للمسائل الأصولية، وفصلٌ للمسائل الفقهية، وفصلٌ لمباحث العقيدة والفِرق، وفصلٌ للمسائل النحوية، وفصلٌ للنكت البلاغية، وفصلٌ للنظرات في الطب، وفصلٌ لآرائه في النقد والأدب، وفصلٌ لعلوم الطبيعة، وهَلُمَّ جَرَّا.
فرأيت أن ذلك سيطول، وأنه يحتاج إلى عدد من الرسائل العلمية خصوصاً وأن المقطع الواحد من كلامه يشتمل على عدد كبير من العلوم.
فليس لي _ إذاً _ إلا مجرد الانتقاء، ولم أشأ إثقال الكتاب بالحواشي؛ فما وجد من ذلك فهو من صنيع المؤلف، وإذا كان مني فإني أرمز إليه بـ(م).
ثم إن هذه النقول ستكون على هيئة فقرات من التفسير، بحيث تأخذ كل مقدمة من المقدمات العشر، أو سورة من السور ترقيماً خاصاً بها بحسب ما يُنتقى؛ فهذا العمل أشبه بالاختصار لما جاء في ذلك الكتاب العظيم، مع ملاحظة أن ما جاء في هذه النقول هو نص عبارة المؤلف دون تصرف أو اختزال.
وقبل الشروع في إيراد تلك اللطائف المنتقاة يحسن أن تُسبق بإلقاء نظرة عامة على سيرة المؤلف، وعلى تعريفٍ عام بالكتاب، ومنهجِ مؤلفه فيه، وعلى نبذة موجزة في علم البلاغة الذي احتفل به المؤلف في تفسيره، واعتنى بالنكت البلاغية عناية بالغة لم تكن لأحد ممن كان قبله من المفسرين.
وهذه النظرة ستكون من خلال توطئة، وأربعة مباحث، وهي كما يلي:
توطئة: وتشتمل على ستة تنبيهات.
المبحث الأول: معالم عامة في سيرة ابن عاشور.
المبحث الثاني: تعريف عام بتفسير التحرير والتنوير.
المبحث الثالث: منهج ابن عاشور في تفسيره، وخلاصة ما اشتمل عليه.
المبحث الرابع: مقدمة في علم البلاغة.
ومع هذا فليس الافتتاح بـ:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ] بمعين أن تكون مكية، وإنما قال ابن عباس: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] يراد به المشركون؛ ولذا فيجوز أن يوجه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي " بها؛ فإن قوله: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صد المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة.
وكذلك قوله: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ] فإنه صريح في أنه نزل في شأن الهجرة. ١٧/١٨٠_١٨١
٦_ ومن أغراض هذه السورة: خطابُ الناسِ بأمرهم أن يتقوا الله، ويخشوا يومَ الجزاءِ وأهوالَه.
والاستدلالُ على نفي الشرك، وخطابُ المشركين بأن يُقلعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله _تعالى_ بالإلهية وعن المجادلة في ذلك؛ اتباعاً لوساوس الشياطينِ، وأن الشياطينَ لا تغني عنهم شيئاً، ولا ينصرونهم في الدنيا وفي الآخرة.
وتفظيعُ جدالِ المشركين في الوحدانية بأنهم لا يستندون إلى علم وأنهم يُعرضون عن الحُجة؛ ليضلوا الناس.
وأنهم يرتابون في البعث وهو ثابتٌ لا رِيْبَةَ فيه، وكيف يرتابون فيه بِعِلَّةِ استحالةِ الإحياءِ بعد الإماتة؟ ولا ينظرون أن اللهَ أوجد الإنسانَ من تراب، ثم من نطفة، ثم طوَّره أطواراً.
وأن اللهَ ينزلُ الماءَ على الأرض الهامدةِ، فتحيا، وتُخْرِجُ من أصناف النبات؛ فالله هو القادرُ على كلِّ ذلك؛ فهو يحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير.
وأن مجادلتَهم بإنكار البعث صادرةٌ عن جهالة وتكبر عن الامتثال لقول الرسول _عليه الصلاة والسلام_.
وَوَصْفُ المشركين بأنهم في تردد من أمرهم في اتباع دين الإسلام.