والإنفاق تقدم غير مرة وهو الصدقة، وإعطاء المال، والسلاح، والعدة في سبيل الله.
والسراء: فعلاء، اسم لمصدر سره سراً وسروراً.
والضراء: كذلك من ضره، أي في حالي الاتصاف بالفرح والحزن، وكأن الجمع بينهما هنا لأن السراء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم، والضراء فيها ملهاة وقلة مَوجدة.
فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تدل على أن محبة نفع الغير بالمال، الذي هو عزيز على النفس، قد صار لهم خلقاً لا يحجبهم عنه حاجب، ولا ينشأ ذلك إلا عن نفس طاهرة.
الصفة الثانية: الكاظمين الغيظ.
وكظم الغيظ: إمساكه، وإخفاؤه حتى لا يظهر عليه، وهو مأخوذ من كَظَمَ القربة إذا ملأها وأمسك فمها، قال المبرد: فهو تمثيل الإمساك مع الامتلاء.
ولا شك أن أقوى القوى تأثيراً على النفس القوةُ الغاضبةُ؛ فتشتهي إظهار آثار الغضب، فإذا استطاع إمساك مظاهرها، مع الامتلاء منها دل ذلك على عزيمة راسخة في النفس، وقهر الإرادة للشهوة، وهذا من أكبر قوى الأخلاق الفاضلة.
الصفة الثالثة: العفو عن الناس فيما أساؤوا إليهم.
وهي تكملة لصفة كظم الغيظ بمنزلة الاحتراس؛ لأن كظم الغيظ قد تعترضه ندامة؛ فيستعدي على من غاظه بالحق، فلما وُصِفوا بالعفو عمن أساء إليهم دل ذلك على أن كظم الغيظ وصفٌ متأصِّل فيهم، مستمر معهم.
وإذا اجتمعت هذه الصفات في نفسٍ سَهُلَ ما دونها لديها.
وبجماعها يجتمع كمال الإحسان ولذلك ذيّل الله _تعالى_ ذكرها بقوله: [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] لأنه دال على تقدير أنهم بهذه الصفات محسنون والله يحب المحسنين. ٤/٩٠_٩١
٢٥_ [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(١٣٥)].
وهي السورة الثالثة والستون في عد نزول السور في قول جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الزخرف وقبل سورة الجاثية في مكانها هذا.
وعدت آيها ستاً وخمسين عند أهل المدينة ومكة والشام، وعدت عند أهل البصرة سبعاً وخمسين، وعند أهل الكوفة تسعاً وخمسين. ٢٥/٢٧٥_٢٧٦
٢_ أغراضها: أشبهَ افتتاحُ هذه السورةِ فاتحةَ سورةِ الزخرفِ من التنويه بشأن القرآنِ وشرفِهِ، وشرفِ وقتِ ابتداءِ نزولِه؛ ليكون ذلك مُؤْذِناً أنه من عند الله، ودالاً على رسالة محمد"ولِيُتَخَلَّصَ منه إلى أن المعرضين عن تدبر القرآن ألهاهم الاستهزاءُ واللمزُ عن التدبر؛ فَحَقَّ عليهم دعاءُ الرسول بعذاب الجوع؛ إيقاظاً لبصائرهم بالأدلة الحسية حين لم تنجع فيهم الدلائلُ العقلية؛ ليعلموا أن إجابة الله دعاء رسوله"دليل على أنه أرسله؛ لِيُبَلِّغَ عنه مرادَه.
فأنذرهم بعذاب يَحُلُّ بهم علاوةً على ما دعا به الرسول"تأييداً من الله له بما هو زائدٌ على مطلبه.
وضَرَبَ لهم مثلاً بأمم أمثالهم عصوا رُسُلَ اللهِ إليهم؛ فَحَلَّ بهم من العقاب ما من شأنه(١) أن يكون عظةً لهؤلاء؛ تفصيلاً بقوم فرعون مع موسى ومؤمني قومه، ودون التفصيل بقوم تُبَّعٍ، وإجمالاً وتعميماً بالذين مِنْ قبل هؤلاء.
وإذ كان إنكارُ البعثِ وإحالَتُه من أكبر الأسباب التي أغرتهم على إهمال التدبر في مراد الله _تعالى_ انْتَقَلَ الكلامُ إلى إثباته، والتعريف بما يعقبه من عقوبة المعاندين ومثوبة المؤمنين؛ ترهيباً وترغيباً.
وأُدْمِجَ فيها فضلُ الليلةِ التي أُنزل فيها القرآنُ، أي اْبتُدِئَ إنزالُه وهي ليلة القدر.
وأُدْمج في خلال ذلك ما جرت إليه المناسباتُ من دلائل الوحدانية، وتأييد الله من آمنوا بالرسل، ومن إثبات البعث.
وخُتِمَتْ بالشد على قلب الرسول"بانتظار النصر، وانتظار الكافرين القهر. ٢٥/٢٧٦

(١) _ في الأصل: من شأنه بدون: ما، ولعل الصواب ما أُثبت.


الصفحة التالية
Icon