وتترتب عليها مسائل في أصول الدين منها: تكفير مرتكب الكبيرة عند طائفة من الخوارج التي تفرق بين المعاصي الكبائر والصغائر، واعتباره منزلة بين الكفر والإسلام عند المعتزلة، خلافاً لجمهور علماء الإسلام.
فمن العجائب أن يقول قائل: إن الله لم يميز الكبائر عن الصغائر؛ ليكون ذلك زاجراً للناس عن الإقدام على كل ذنب، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات، وليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، هكذا حكاه الفخر في التفسير.
وقد تبين ذهول هذا القائل، وذهول الفخر عن رده؛ لأن الأشياء التي نظروا بها ترجع إلى فضائل الأعمال التي لا يتعلق بها تكليف؛ فإخفاؤها يقصد منه الترغيب في توخي مظانها؛ ليكثر الناس من فعل الخير، ولكن إخفاء الأمر المكلف به إيقاع في الضلالة فلا يقع ذلك من الشارع. ٥/٢٧
٩_ والتيمم من خصائص شريعة الإسلام كما في حديث جابر أن النبي" قال: =أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي فذكر منها وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً+.
والتيمم بَدَلٌ جَعَلَهُ الشَّرْعُ عن الطهارة، ولم أر لأحد من العلماء بياناً في حكمة جعل التيمم عوضاً عن الطهارة بالماء، وكان ذلك من همي زمناً طويلاً وقت الطلب ثم انفتح لي حكمة ذلك.
وأحسب أن حِكْمَةَ تشريعِهِ تقريرُ لزومِ الطهارة في نفوس المؤمنين، وتقرير حرمة الصلاة، وترفيع شأنها في نفوسهم؛ فلم تترك لهم حالة يعدون فيها أنفسهم مصلين بدون طهارة؛ تعظيماً لمناجاة الله _تعالى_ فلذلك شرع لهم عملاً يشبه الإيماء إلى الطهارة؛ ليستشعروا أنفسهم متطهرين، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صعيد الأرض التي هي منبع الماء، ولأن التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها، ينظفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وماعُونِهِمْ.
وما الاستجمار إلا ضرب من ذلك، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده، وتذكيره بأنه مطالب به عند زوال مانعه.
وتهديدُ المنافقين بأن الله ينبي رسوله"بسيماهم، وتحذيرُ المسلمين من أن يروجَ عليهم نفاقُ المنافقين.
وخُتِمَتِ بالإشارة إلى وعد المسلمين بنوال السلطان، وحذَّرهم إن صار إليهم الأمر من الفساد والقطيعة. ٢٦/٧٢
٣_ ولهذا المقصد الدقيق جمع بين النهي عن الوهن والدعاء إلى السلم وأتبع بقوله: [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ].
فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسألة من العدو في حال قدرة المسلمين، وخوف العدو منهم، فهو سَلْمٌ مُقَيَّدٌ بكون المسلمين داعين له وبكونه عن وهن في حال قوة.
قال قتادة: أي لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.
فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله: [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] في سورة الأنفال؛ فإنه سَلْمٌ طلبه العدو؛ فليست هذه الآية ناسخة لآية الأنفال، ولا العكس، ولكل حالة خاصة، ومقيد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعِدَّة وعُدَّة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدَّعَة.
فإذا كان للمسلمين مصلحةٌ في السَّلْم، أو كان أخف ضراً عليهم فلهم أن يبتدئوا إذا احتاجوا إليه، وأن يجيبوا إليه إذا دُعوا إليه.
وقد صالح النبي"المشركين يوم الحديبية؛ لمصلحة ظهرت فيما بعد، وصالح المسلمون في غزوهم أفريقية أهلها، وانكفأوا راجعين إلى مصر.
وقال عمر بن الخطاب في كلام له مع بعض أمراء الجيش: =فقد آثرت سلامة المسلمين+.
وأما الصلح على بعض الأرض مع فتحها فذلك لا ينافي قوة الفاتحين كما صالح أمراء أبي بكر نصف أهل دمشق وكما صالح أمراء عمر أهل سود العراق وكانوا أعلم بما فيه صلاحهم. ٢٦/١٣١
١_ سورة [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً] سميت في كلام الصحابة (سورة الفتح).
ووقع في صحيح البخاري عن عبدالله بن مغفل (بغين معجمة مفتوحة وفاء مشددة مفتوحة) قال: قرأ النبي"يوم فتح مكة (سورة الفتح) فرجَّع فيها.


الصفحة التالية
Icon