وإذا قد كان التيممُ طهارةً رمزيةً اقتنعت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى، كما دل عليه حديث عمار بن ياسر، ويؤيد هذا المقصد أن المسلمين لما عدموا الماء في غزوة المريسيع صلوا بدون وضوء؛ فنزلت آية التيمم.
هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعية التيمم بعد طول البحث والتأمل في حكمة مقنعة في النظر، وكنت أعد التيمم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبد بنوعه، وأما التعبد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير، مثل عدد الركعات في الصلوات، وكأن الشافعي لما اشترط أن يكون التيمم بالتراب خاصة وأن ينقل المتيمم منه إلى وجهه ويديه راعى فيه معنى التنظيف كما في الاستجمار، إلا أن هذا القول لم ينقل عن أحد من السلف وهو ما سبق إلى خاطر عمار بن ياسر حين تمرغ في التراب لما تعذر عليه الاغتسال، فقال له النبي": = يكفيك من ذلك الوجه والكفان+. ٥/٦٨_٦٩
١٠_ ونجد القوانين التي سنها الحكماء أمكن في تحقيق منافع العدل مثل قوانين أثينة وإسبرطة، وأعلى القوانين هي الشرائع الإلهية لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم، وأعظمها شريعة الإسلام؛ لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالة؛ فإنها لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بعوائد الفساد، ولأنها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصة، أو بلد خاص، بل تبتنى على مصالح النوع البشري، وتقويمه، وهديه إلى سواء السبيل؛ ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدونون بيان الحقوق؛ حفظاً للعدل بقدر الإمكان وخاصة الشرائع الإلهية، قال _تعالى_: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] أي العدل.
فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية، ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة؛ فهو مُدْرَجٌ فيها، ومُلْحَقٌ بها. ٥/٩٥
وفيها حديث سهل بن حنيف: =لقد رأيتُنا يوم الحديبية ولو ترى قتالاً لقاتلنا+.
ثم حكى مقالة عمر إلى أن قال: =فنزلت سورة الفتح ولا يعرف لها اسم آخر+.
ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح متجه الله للنبي" _كما سيأتي_.
وهي مدنية على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها أو من غيرها.
وهذه السورة نزلت بموضع يقال له كُراع الغَمِيم _بضم الكاف من كراع وبفتح الغين المعجمة وكسر الميم من الغميم_ موضع بين مكة والمدينة، وهو واد على مرحلتين من مكة وعلى ثلاثة أميال من عُسفان وهو من أرض مكة.
وقيل نزلت بضَجْنان _بوزن سكران_ وهو جبل قرب مكة، ونزلت ليلاً؛ فهي من القرآن الليلي.
ونزولها سنة ست بعد الهجرة مُنصرَف النبي"من الحديبية وقبل غزوة خيبر.
وفي الموطأ عن عمر: =أن رسول الله " كان يسير في بعض أسفاره _أي منصرفه من الحديبية_ ليلاً وعمر بن الخطاب يسير معه، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال: عمر ثكلت أم عمر نزرتَ رسول الله"ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك.
قال عمر: فحركت بعيري، وتقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل فيّ القرآن، فما نَشِبْت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن، فجئت رسول الله، فسلمت عليه فقال: =لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً]+.
ومعنى قوله: =لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس+ لما اشتملت عليه من قوله: [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ].
وأخرج مسلم والترمذي عن أنس قال: =أنزل على النبي: [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ] إلى قوله: [فَوْزاً عَظِيماً] مرجعه من الحديبية فقال النبي": لقد أنزلت علي آية أحب إليَّ مما على وجه الأرض+ ثم قرأها.


الصفحة التالية
Icon