٤١_ طول النَّفس، والاستقراء، والدأب في تتبع المسائل: فتراه يورد المسألة ويطيل فيها، ويورد الأقوال عليها، فلا يَفْرُغ منها إلا وقد قتلها بحثاً وتحريراً.
ولا تراه يقنع بكل ما قيل، بل يَرُدُّ ما لا يعضده البحث والدليل كما في حديثه عن الحروف المقطعة في القرآن، وسرد الأقوال الواردة فيها ١/٢٠٧_٢١٦، وكما في حديثه عن مسألة براءة القرآن من الشعر عند تفسير قوله _تعالى_ في سورة يس: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ] ٢٣/٥٧_٦٥، وكما في حديثه عن معنى كون الإسلام هو الفطرة ٢١/٩٠_٩٢.
ولا أدل على طول نفسه من كونه فسر القرآن في مدة تسعة وثلاثين عاماً وستة أشهر، وهو _في ذاته_ عُمْرٌ.
ومما يدل على ذلك _أيضاً_ استدراكه على نفسه فقد يقرر شيئاً، أو يفوته شيء، أو يتبين له الصواب، أو يظهر له مزيد فائدة فيما بعد؛ فتراه بعد ذلك ينبه القارئ، ويوصيه بأن يُلحق الفائدة الجديدة بنظيراتها مما سبق تفسيره.
ولا ريب أن طول مدة التأليف تمده بما يستجد له من المعارف والأبحاث.
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسيره لقوله _تعالى_: [فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ] ٣٠/٤٥١، حيث تكلم في تفسير هذه الآية عن دار الندوة، وتاريخها وأن الخليفة العباسي المعتضد بالله =لمَّا زاد المسجد الحرام جعل مكان دار الندوة مسجداً متصلاً بالمسجد الحرام، فاستمر كذلك، ثم هُدم، وأُدخلت مساحته في مساحة المسجد الحرام في الزيادة التي زادها الملك سعود بن عبدالعزيز ملك الحجاز ونجد سنة ١٣٧٩هـ+.
ويُلاحظ أن تاريخ هذه الزيارة التي ذكرها ابن عاشور كانت قُبَيْل انتهائه من التفسير بسنة واحدة.
وهذا يدلُّ على دأبه، وتتبعه.
كما أن من أجلِّ ما تميز به تفسير التحرير والتنوير أن مؤلفه ابتنى كثيراً من أحكامه على الاستقراء في اللغة والبلاغة، والفقه وغير ذلك.
وتلك خصيصة لا يقوم بها إلا الأفذاذ.
وإذا حل الاهتداء في النفوس نشأت الصالحات؛ فأقبلت مسبباتها تنهال على الأمة؛ فالأسباب هي الإيمان وعمل الصالحات. ١٨/٢٨٢_٢٨٣
١٧_ فالصالحات: جمع صالحة، وهي الخصلة والفعلة ذات الصلاح، أي التي شهد الشرع بأنها صالحة، وقد تقدم في أول البقرة.
واستغراق [الصَّالِحَاتِ] استغراق عرفي، أي عمل معظم الصالحات، ومهماتها، ومراجعها مما يعود إلى تحقيق كليات الشريعة وجري حالة مجتمع الأمة على مسلك الاستقامة، وذلك يحصل بالاستقامة في الخويصة، وبحسن التصرف في العلاقة المدنية بين الأمة على حسب ما أمر به الدين أفراد الأمة كل فيما هو من عمل أمثاله الخليفة فمن دونه، وذلك في غالب أحوال تصرفاتهم، ولا التفات إلى الفلتات المناقضة؛ فإنها معفو عنها إذا لم يسترسل عليها، وإذا ما وقع السعي في تداركها.
والاستقامة في الخويصة هي موجب هذا الوعد، وهي الإيمان وقواعد الإسلام، والاستقامة في المعاملة هي التي بها تيسير سبب الموعود به.
وقد بين الله _تعالى_ أصول انتظام أمور الأمة في تضاعيف كتابه وعلى لسان رسوله " مثل قوله _تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ] وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] وقوله في سياق الذم: [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ] وقوله: [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ].


الصفحة التالية
Icon