وكما في استشهاده بقصة سيف الدولة مع المتنبي في بيتيه اللذين يقول فيهما:

وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضَّاح وثغرك باسم
وكما في تكراره لبعض المسائل والألفاظ والمصطلحات، كتكراره لبعض المصطلحات البلاغية _كما سيأتي_ وتكراره لبعض المصطلحات النحوية كقوله: هذه حال مؤسسة، أو حال مؤكدة، ويعني بالمؤسسة: ما تفيد معنى جديداً كقوله: =جاء زيداً راكباً+.
ويعني بالمؤكدة ما تؤكد معنى موجوداً كقوله _تعالى_: [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً] وقوله: [ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ].
وكثيراً ما يورد بعض الألفاظ والمصطلحات في فقه اللغة ككلمة (فَذْلَكَة)، فتراه يقول: =هذه فذلكة+، أو =فكان هذا الختام فذلكة+.
والفذلكة: كلمة مُحْدَثة، ومعناها مُجْمَل ما فُصِّل وخلاصته، ومنه فَذْلَكَ الحسابَ: أي أنهاه وفرغ منه.
وهي منحوتة من: فَذَلِكَ كذا وكذا إذا أجمل حسابه.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة المكررة.
فهذا هو مجمل منهج الشيخ ابن عاشور في تفسيره، وخلاصة مزاياه، وما اشتمل عليه.
ولم أُكثر من إيراد الأمثلة، والشواهد على ما ذُكر؛ رغبة في الإيجاز.
ومن خلال ذلك يتضح لنا أن ابن عاشور يرى أن القرآن كتاب هدى وإصلاح، ومنبع علوم وآداب.
تمهيد: البلاغة في تفسير التحرير والتنوير
لم يحفل تفسيرٌ من التفاسير بالبلاغة العربية، وأساليب الاستعمال كما حفل به تفسير التحرير والتنوير.
ولم يخصَّ أحدٌ من المفسرين _كما يقول ابن عاشور في مقدمة تفسيره_ فن دقائق البلاغة بكتابٍ كما خصوا الأفانين الأخرى.
ومن أجل ذلك _كما يقول_ التزم ألا يُغفل التنبيه على ما يلوح له من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن العظيم؛ كلما أُلْهِمَهُ بحسب مبلغ الفهم والتدبر(١).
(١) _ انظر مقدمة تفسير التحرير والتنوير ١/٨، وستأتي كاملةً بنصها بعد قليل.

١_ سميت هذه السورة سورة الفرقان في عهد النبي" وبمسمع منه؛ ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال: =سمعت هشام بن حكيم ابن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله؛ فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله؛ فكدت أساوره في الصلاة؛ فتصبرت حتى سلم فَلَبّبْتُه بردائه، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها..+ الحديث.
ولا يعرف لهذه السورة اسم غير هذا، والمؤدبون من أهل تونس يسمونها (تبارك الفرقان) كما يسمون (سورة الملك) تبارك، وتبارك الملك.
ووجه تسميتها (سورة الفرقان) لوقوع لفظ الفرقان فيها ثلاث مرات في أولها، ووسطها، وآخرها.
وهي مكية عند الجمهور، وروي عن ابن عباس أنه استثنى منها ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله _تعالى_:[وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ] إلى قوله: [وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً].
والصحيح عنه أن هذه الآيات الثلاث مكية كما في صحيح البخاري في تفسير سورة الفرقان: =عن القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جيبر: هل لمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة؟ فقرأت عليه: [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ] فقال سعيد: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي؟ فقال: هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة النساء يريد قوله _تعالى_: [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً] الآية.
وعن الضحاك: أنها مدنية إلا الآيات الثلاث من أولها إلى قوله: [وَلا نُشُوراً].
وأسلوب السورة وأغراضها شاهدة بأنها مكية.
وهي السورة الثانية والأربعون في ترتيب النزول، نزلت بعد سورة يس، وقبل سورة فاطر، وعدد آياتها سبع وسبعون باتفاق أهل العدد. ١٨/٣١٣_٣١٤
٢_ واشتملت هذه السورة على الابتداءِ بتحميدِ الله _تعالى_ وإنشاءِ الثناء عليه، ووصفِه بصفات الإلهية والوحدانية فيها.


الصفحة التالية
Icon