فليس بالضرورة إذا ذكر شخص أو عالم أن تُذكر هفواته، أو تُتَلمس عثراته، أو يُفصل فيها من غير حاجة.
أما إذا احْتِيْجَ إلى الرد والمناقشة مع أحد منهم فلذلك موضعه، ومناسبته، وما يليق به.
وإذا كانت الحاجة إلى التفصيل فُصِّل في ذلك، وإلا ذكرت أخطاؤه إجمالاً.
وبذلك نحفظ لعلمائنا وعظمائنا أقدارهم بلا وكس، ولا شطط.
كيف إذا استحضرنا أن الشيخ ابن عاشور قد عاش في مرحلة حرجة من مراحل تاريخ أمة الإسلام خصوصاً في بلدان المغرب العربي؟
حيث إن الاستعمار كان يضرب بجرانه فيها، ويجوس خلال ديارها؛ سعياً في تغريبها، وتفريقها، وطمس هويَّتها، والقضاء على ما بقي من معالم دينها، وعلومها، وعفتها؛ فذلك يدعو إلى الاحتفاء بهذا العالم، ويقود إلى التماس المعاذير له.
ولا يعني ذلك أن يساير في خطئه، وإنما المقصود أن يحفظ له قدره، وألا يغمط إحسانه، وفضله.
يقول العلامة الأستاذ محمد كرد علي × في مذكراته ١/ ٢٧٤ :=دخل عليَّ مستشار المعارف، وأنا في مكتبي بالوزارة ظاهر الغضب على محرر جريدتنا المقتبس؛ لنشره في الجريدة تعريضاً ببعض رصفائي الوزراء؛ خدمة لأعراض من يخدمهم من حزبه؛ فسألني المستشار عن غضبي على خلاف عادتي، فذكرت له السبب، فقال: لا أعرف كيف أعلل هذه الأخلاق فيكم تسقطون أبداً رجالَكم من الأعين، ورجالُكُم قليلون مهما بلغ عددهم لا يتجاوز المائة؛ فإذا أسقطتموهم كلهم فمن يبقى يخدمكم في السراء والضراء، وينفعكم باسمه ومكانته؟!+.
وقال الأستاذ محمد كرد علي _أيضاً_ :=كان أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري وهو على سرير الموت يقول لمن حوله من أصحابه: اذكروا مَنْ عندكم من الرجال الذين ينفعونكم في الشدائد، ودوِّنوا أسماءهم في جريدة؛ لئلا تنسوهم، ونوِّهوا بهم عند كل سانحة، واحرصوا عليهم حرصَكم على أعزِّ عزيز.
وأظنهم على كثرة ماكدَّوا حافظتهم وذاكرتهم لم يعدوا أكثر من خمسين رجلاً.
ثم هي تتشعب شعباً تأوي إلى هذين الأصلين.
وأقدم النحل المجوسية أسسها (كيومرث) الذي هو أول ملك بفارس في أزمنة قديمة يظن أنها قبل زمن إبراهيم _ عليه السلام _ ولذلك يلقب _أيضاً_ بلقب (جل شاه) تفسيره: ملك الأرض.
غير أن ذلك ليس مضبوطاً بوجه علمي، وكان عصر (كيومرث) يلقب (زروان) أي الأزل، فكان أصل المجوسية هم أهل الديانة المسماة: الزروانية وهي تثبت إلهين هما (يزدان) و (أهرمن).
قالوا: كان يزدان منفرداً بالوجود الأزلي، وأنه كان نورانياً، وأنه بقي كذلك تسعة آلاف وتسعين سنة، ثم حدث له خاطر في نفسه: أنه لو حدث له منازع كيف يكون الأمر؛ فنشأ من هذا الخاطر موجود جديد ظلماني سمي (أَهْرُمَنْ) وهو إله الظلمة مطبوعاً على الشر والضر، وإلى هذا أشار أبو العلاء المعري بقوله في لزومياته:

قال أناسٌ باطلٌ زَعْمُهُمْ فراقبوا الله ولا تزعمن
فَكَّر يزدانُ على غِرَّةٍ فصيغ من تفكيره أَهْرُمَنْ
فحدث بين (أهرمن) وبين (يزدان) خلاف ومحاربة إلى الأبد، ثم نشأت على هذا الدين نحل خُصَّت بألقاب، وهي متقاربة التعاليم أشهرها نحلة (زرادشت) الذي ظهر في القرن السادس قبل ميلاد المسيح، وبه اشتهرت المجوسية.
وقد سمي إله الخير (أهورا مزدا) أو (أرمزد) أو (هرمز).
وسمي إله الشر (أهرمن) وجعل إله الخير نوراً، وإله الشر ظلمة، ثم دعا الناس إلى عبادة النار على أنها مظهر إله الخير وهو النور، ووسع شريعة المجوسية، ووضع لها كتاباً سماه (زندافستا).
ومن أصول شريعته تجنب عبادة التماثيل.
ثم ظهرت في المجوس نحلة (المانوية) وهي المنسوبة إلى (ماني) الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير ملك الفرس بين سنة ٢٣٨ وسنة ٢٧١م.
وظهرت في المجوس نحلة (المزدكية) وهي منسوبة إلى (مزدك) الذي ظهر في زمن قباذ بين سنة ٤٨٧ وسنة ٥٢٣م، وهي نحلة قريبة من (المانوية)، وهي آخر نحلة ظهرت في تطور المجوسية قبل الفتح الإسلامي لبلاد الفرس.


الصفحة التالية
Icon