ثم ألَّف أبو هلال العسكري ت ٣٩٥هـ كتابه العظيم (كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر) فعرض زبدة تلك الكتب، وصار كتابه من أمهات البلاغة.
ثم جاء الشيخ عبدالقاهر الجرجاني ت ٤٧١هـ فخصَّ علم البلاغة بالتدوين في كتابيه: (كتاب دلائل الإعجاز) و(كتاب أسرار البلاغة) فأعطى ألقاباً للمسائل، وأخرج الكلام في الإعجاز عن الصفة الجزئية إلى قواعد كلية مسهبة مبرهنة.
ولم يَصِرْ عِلْمُ البلاغةِ فنَّاً مهذَّباً مبوباً إلا منذ صنف يوسف السكاكي ت ٦٢٦هـ القسم الثالث من كتابه (مفتاح علوم العربية).
حيث جمع زبدة ما كتبه الأئمة قبله في هذه الفنون، ونظم لآلئها المتفرقة في تضاعيف كتبهم، وأحاط بكثير من قواعدها المبعثرة في الأمهات، ورتبها أحسن ترتيب، وبوَّبها خير تبويب، وفَصَل فنونَ البيان(١) الثلاثة بعضها من بعض؛ لما كان له من واسع الاطلاع على علوم المنطق والفلسفة.
وقد اختصر مؤلَّفه في كتاب آخر سماه (التبيان) ولخَّص (المفتاح) بعض المتأخرين في أمهات مشهورة كما فعل ابن مالك في كتابه (المصباح) والخطيب جلال الدين محمد بن عبدالرحمن القزويني المتوفى سنة ٧٣٩هـ في كتابيه (تلخيص المفتاح) و(شرح الإيضاح).
والأخير مؤلف جليل جمع فيه مؤلفه خلاصة (المفتاح) و(دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) و (سر الفصاحة) لابن سنان الخفاجي.
ثم طفق المؤلفون من القرن الثامن وما بعده يوسعون الشروح والحواشي على المفتاح وتلخيصه للقزويني، وصرفوا جلَّ همتهم في تفسير ما أشكل من عبارات المؤلفين، والجمع بين ما تناقض من آرائهما.

(١) _ كانت مسائل البلاغة كلها تسمى بـ: علم البيان، كما كان يسميها عبدالقاهر الجرجاني، ثم أفصح السكاكي عن الفرق في مباحث البلاغة؛ فصارت فنونها الثلاثة المعروفة: المعاني، والبيان، والبديع؛ فتتابع الناس من بعده على هذه الاصطلاحات.

وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام: وهو قوله: [وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً] وقوله: [وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا] الآية، وقوله: [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ] إلى قوله: [لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ] الخ.
وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة: وهو قوله: [وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا] إلى قوله: [لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً]. ١٩/٦٧_٦٨
٧_ والهَوْن: اللين والرفق، ووقع هنا صفة لمصدر المشي محذوف تقديره (مشياً) فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.
والمشي الهون: هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام، وخفق النعال؛ فهو مخالف لمشي المتجبرين المعجبين بنفوسهم وقوَّتهم.
وهذا الهون ناشئ عن التواضع لله _تعالى_ والتخلق بآداب النفس العالية، وزوال بطر أهل الجاهلية؛ فكانت هذه المِشْية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية.
وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلاماً يتبختر في مشيته فقال له: =إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله+.
وقد مدح الله _تعالى_ أقواماً بقوله سبحانه: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً] فاقصد في مشيتك.
وحكى الله _تعالى_ عن لقمان لابنه: [وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً].
والتخلق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة المناسب لعباد الرحمن؛ لأن الرحمة ضد الشدة؛ فالهَوْن يناسب ماهيتها، وفيه سلامة من صدم المارين. ١٩/٦٨
٨_ وقُرن وصفهم بالتواضع في سمتهم وهو المشي على الأرض هوناً بوصف آخر يناسب التواضع، وكراهية التطاول، وهو متاركة الذين يجهلون عليهم في الخطاب بالأذى والشتم.


الصفحة التالية
Icon