٢_ البحر له دلالتان: إحداهما حقيقته، وهي دلالته على الماء العظيم الملح.
والأخرى مجازية وهي: دلالته على الرجل الجواد الكثير العطاء، أو العالم الغزير العلم.
٣_ اليد لها دلالتان: إحداهما حقيقته، وهي الجارحة المعروفة، كما تقول: كتبت بيدي.
والأخرى مجازية بمعنى النعمة، كما تقول: لفلانٍ عليَّ يدٌ، أي: نعمة.
_ مسائل عامة في المجاز:
أ_ يفرق بين الحقيقة والمجاز بسياق الكلام، وقرائن الأحوال، ولا يمكن أن يقال: إن كلا الدلالتين الحقيقية والمجازية سواء؛ بحيث إذا أطلق اللفظ دل عليهما معاً.
ب_ أن كل مجاز له حقيقة؛ لأنه لم يطلق عليه لفظ مجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة.
وليس مِنْ ضرورةِ كلِّ حقيقة أن يكون لها مجاز.
ج_ أن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا ينصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه إلا بقرينة _ كما مر في الأمثلة الماضية _.
_ الخلاف في أصل وقوع المجاز: اختلف العلماء في أصل وقوع المجاز وثبوته في اللغة والقرآن، على ثلاثة أقوال:
أ_ أن المجاز واقع في اللغة والقرآن: وهذا مذهب جماهير العلماء، والمفسرين، والأصوليين، واللغويين، والبلاغيين، وغيرهم؛ بل حكى الإجماع على ذلك يحيى بن حمزة العلوي في كتابه (الطراز) غير أن في تلك الدعوى توسعاً؛ لوجود المخالف المعتبر.
ب_ إنكار المجاز مطلقاً في اللغة والقرآن: وقد ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الاسفراييني، وتبعه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
ج_ أن المجاز واقع في اللغة دون القرآن: وقد ذهب إلى ذلك داود الظاهري، وابنه محمد، وابن القاصّ الشافعي، وابن خويز منداد المالكي، ومنذر بن سعيد البلوطي، ومن المعاصرين الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي.
_ خاتمة الحديث عن المجاز: وبعد أن وقفت على شيء من أمر المجاز، وما جاء في الخلاف حول إثباته أو نفيه _ يتبين لك أن أعظم الأسباب التي دعت إلى نفيه وإنكاره أن أهل التعطيل اتخذوه مطية لتحريف بعض نصوص الشرع لاسيما في باب الصفات.
ومعنى: [وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً] أي كان إقبالهم على القرآن والعبادة أكثر من إقبالهم على الشعر.
[وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا]: وهم من أسلموا من الشعراء وقالوا: الشعر في هجاء المشركين والانتصار للنبي"مثل الذين أسلموا وهاجروا إلى الحبشة؛ فقد قالوا شعراً كثيراً في ذم المشركين، وكذلك من أسلموا من الأنصار كعبدالله ابن رواحة، وحسان بن ثابت، ومن أسلم من بعد من العرب مثل لبيد، وكعب ابن زهير، وسحيم عبد بني الحسحاس.
وليس ذكر المؤمنين من الشعراء بمقتضي كون بعضِ السورة مدنياً كما تقدم في الكلام على ذلك أول السورة. ١٩/٢١٠_٢١١
١١_ وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين: حالةً مذمومةً، وحالةً مأذونةً، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعراً، ولكن لما حَفَّ به من معانٍ وأحوال اقتضت المذمة؛ فانفتح بالآية للشعر بابَ قبولٍ ومدحٍ؛ فحق على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه.
وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله: [وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا]، وإلى الحالة المأذونة قوله: [وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ].
وكيف وقد أثنى النبي"على بعض الشعر مما فيه محامد الخصال واستنصتَ أصحابه لشعر كعب بن زهير مما فيه دقة صفات الرواحل الفارهة، على أنه أذن لحسان في مهاجاة المشركين، وقال له: =كلامك أشد عليهم من وقع النبل..+.
وقال له: =قل ومعك روح القدس+.
وسيأتي شيء من هذا عند قوله _تعالى_: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ] في سورة يس.
وأجاز عليه كما أجاز كعب بن زهير؛ فخلع عليه بردته، فتلك حالة مقبولة؛ لأنه جاء مؤمناً.
وقال أبو هريرة سمعت رسول الله " يقول على المنبر: =أصدق كلمة، أو أشعر كلمة قالتها العرب كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل+
وكان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت، لما فيه من الحكمة وقال: =كاد أمية أن يسلم+.