الحمد لله على أن بيَّن للمستهدين معالم مراده، ونصب لجحافل المستفتحين أعلام أمداده فأنزل القرآن قانوناً عاماً معصوماً، وأعجز بعجائبه فظهرت يوماً فيوماً، وجعله مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً، وما فرط فيه من شيء يعظ مسيئاً ويَعِدُ محسناً؛ حتى عرفه المنصفون من مؤمن وجاحد، وشهد له الراغب والمحتار والحاسد؛ فكان الحال بتصديقه أنطقَ من اللسان، وبرهان العقل فيه أبصر من شاهد العيان، وأبرز آياته في الآفاق فتبين للمؤمنين أنه الحق، كما أنزله على أفضل رسول فبشر بأن لهم قدم صدق؛ فبه أصبح الرسول الأمي سيدَ الحكماء المربين، وبه شرح صدره إذ قال: [إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ] فلم يزل كتابه مُشِعَّاً نيِّراً، محفوظاً من لدنه أن يترك فيكون مبدلاً ومغيراً.
ثم قيض لتبيينه أصحابَه الأشداءَ الرحماءَ، وأبان أسراره من بعدهم في الأمة من العلماء؛ فصلاة الله وسلامه على رسوله وآله الطاهرين، وعلى أصحابه نجوم الاقتداء للسائرين والماخرين(١) أما بعد:

(١) _ قال رسول الله ": =أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم+ فبنيت على هذا التشبيه تشبيه المقتدين بهم بفريقين: فريق سائرون في البر وفي ذلك تشبيه عملهم في الإهداء، وهو اتباع طريق السنة؛ بالسير في طرق البر.
= وفريق ماخرون أي سائرون في الفلك المواخر في البحر، وتضمن ذلك تشبيه عملهم في الإهداء وهو الخوض في العلوم بالمخر في البحر. ومن ذلك الإشارة إلى أن العلم كالبحر _كما هو شائع_ وأن السنة كالسبيل المُبَلِّغ للمقصود.

ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة؛ لتتوجه أنظارهم إلى ما في الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة.
وهذا من العلم الذي أُوْدع في القرآن؛ ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي كما قدمناه في الجهة الثانية من المقدمة العاشرة.
فإن الناس كانوا يحسبون أن الشمس تدور حول الأرض؛ فينشأ من دورانها نظام الليل والنهار، ويحسبون الأرض ساكنة.
واهتدى بعض علماء اليونان أن الأرض هي التي تدور حول الشمس في كل يوم وليلة دورة تتكون منها ظلمة نصف الكرة الأرضية تقريباً وضياء النصف الآخر، وذلك ما يعبر عنه بالليل والنهار، ولكنها كانت نظرية مرموقة بالنقد، وإنما كان الدال عليها قاعدة أن الجرم الأصغر أولى بالتحرك حول الجرم الأكبر المرتبط بسيره وهي علة إقناعية؛ لأن الحركة مختلفة المدارات؛ فلا مانع من أن يكون المتحرك الأصغر حول الأكبر في رأي العين، وضبط الحساب.
وما تحققت هذه النظرية إلا في القرن السابع عشر بواسطة الرياضي (غاليلي) الإيطالي.
والقرآن يدمج في ضمن دلائله الجمة، وعَقِبَ دليلِ تكوينِ النور والظلمة _ دليلاً رُمِزَ إليه رمزاً؛ فلم يتناولْه المفسرون، أو تسمع لهم ركزاً.
وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها؛ لأن الجبال هي الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية؛ فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها، ثم آخذة في الزيادة بعد الزوال.
ومشاهدةُ تحركِ تلك الظلال تحركاً يحاكي دبيب النمل أشد وضوحاً للراصد، وكذلك ظهور تحرك قممها أمام قرص الشمس في الصباح والمساء أظهر مع كون الشمس ثابتة في مقرها بحسب أرصاد البروج والأنواء.
ولهذا الاعتبار غير أسلوب الاستدلال الذي في قوله _تعالى_: [أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ] فجعل هنا بطريق الخطاب: [وَتَرَى الْجِبَالَ].


الصفحة التالية
Icon