فقد كان أكبر أمنيتي منذ أمد بعيد تفسير الكتاب المجيد، الجامع لمصالح الدنيا والدين، ومُوْثِقِ شديد العرى من الحق المتين، والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها، والآخذِ قوس البلاغة من محل نياطها؛ طمعاً في بيان نُكَتٍ من العلم وكلياتٍ من التشريع، وتفاصيلَ من مكارم الأخلاق، كان يلوح أنموذج من جميعها في خلال تدبره، أو مطالعة كلام مفسِّرِه(١).
ولكني كنت على كلفي بذلك أَتَجَّهم التقَحُّم على هذا المجال، وأحجم عن الزجّ بِسيَةِ قوسي في هذا النضال؛ اتقاءَ ما عسى أن يعرَِّض له المرءُ نفسه من متاعب تنوء بالقوة، أو فلتاتِ سهامِ الفهم وإن بلغ ساعدُ الذهن كمالَ الفُتُوَّة؛ فبقِيتُ أسوّف النفس مرة ومرة أسومها زَجراً، فإن رأيتُ منها تصميماً أحَلْتُها على فرصة أخرى، وأنا آمل أن يُمْنَح من التيسير ما يشجّع على قصد هذا الغرض العسير.
وفيما أنا بين إقدام وإحجام، أتخيل هذا الحَقل مَرَةً القتاد وأخرى الثُّمام(٢)

(١) _ أشير بهذا إلى أن المهم من كلام المفسرين يرشد إلى الزيادة على ما ذكروه، والذي دون ذلك من كلامهم ينبه إلى تقويم ما ذكروه، والمفسر هنا مراد به الجنس.
(٢) _ قوله: =القتاد+: يشير به إلى الصعوبة؛ لأن القتاد هو الشوك؛ ولهذا يقال لما عَزَّ وصعب وعسر: دونه خرط القتاد.
وقوله: =الثُّمام+: هو نبت قريب سهل التناول؛ لأنه لا يطول؛ فصار يضرب به المثل لما قرب وسهل تناوله.(م)

والخطاب للنبي"تعليماً له لمعنى يُدْرِكُ هو كنهه؛ ولذلك خُصَّ الخطاب به، ولم يعمّم كما عمّم قوله: [أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ] في هذا الخطاب، وادخاراً لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة.
فالنبي"أطلعه الله على هذا السر العجيب في نظام الأرض كما أطلع إبراهيم _عليه السلام_ على كيفية إحياء الموتى اختص الله رسوله " بعلم ذلك في وقته وائتمنه على علمه بهذا السر العجيب في قرآنه، ولم يأمره بتبليغه؛ إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حينئذ حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه وجد أهل القرآن ذلك حقاً في كتابه، فاستلّوا سيف الحجة به؛ وكان في قُرَابه.
وهذا التأويل للآية هو الذي يساعد قوله:[وَتَرَى الْجِبَالَ] المقتضي أن الرائي يراها في هيئة الساكنة، وقوله:[تَحْسَبُهَا جَامِدَةً] إذ هذا التأويل بمعنى الجامدة هو الذي يناسب حالة الجبال؛ إذ لا تكون الجبال ذائبة. ٢٠/٤٨_٥٠
١_ سُمِّيت سورةَ القصص ولا يعرف لها اسمُ آخر، ووجه التسمية بذلك وقوع لفظ (القصص) فيها عند قوله _تعالى_: [فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ].
فالقصص الذي أضيفت إليه السورة هو قصص موسى الذي قصه على شعيب _عليهما السلام_ فيما لقيه في مصر قبل خروجه منها.
فلما حكي في السورة ما قصه موسى كانت هاته السورة ذات قصص لحكاية قصص، فكان القصص متوغلاً فيها، وجاء لفظ القصص في سورة يوسف ولكن سورة يوسف نزلت بعد هذه السورة.
وهي مكية في قول جمهور التابعين، وفيها آية:[إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ].
قيل: نزلت على النبي"في الجحفة في طريقه إلى المدينة للهجرة تسلية له على مفارقة بلده.
وهذا لا يناكد أنها مكية؛ لأن المراد بالمكي ما نزل قبل حلول النبي"بالمدينة كما أن المراد بالمدني ما نزل بعد ذلك ولو كان نزوله بمكة.


الصفحة التالية
Icon