فعلمنا من قوله: [أَحْسَنَ] أن القصص القرآنية لم تسق مساق الإحماض(١) وتجديد النشاط، وما يحصل من استغراب مبلغ تلك الحوادث من خير أو شر؛ لأن غرض القرآن أسمى وأعلى من هذا، ولو كان من هذا لساوى كثيراً من قصص الأخبار الحسنة الصادقة فما كان جديراً بالتفضيل على كل جنس القصص.
والقصة: الخبر عن حادثة غائبة عن المخبر بها، فليس ما في القرآن من ذكر الأحوال الحاضرة في زمن نزوله قصصاً مثل ذكر وقائع المسلمين مع عدوهم، وجمع القصة قِصَص بكسر القاف.
وأما القَصَص بفتح القاف فاسم للخبر المقصوص، وهو مصدر سمي به المفعول، يقال: قص على فلان إذا أخبره بخبر.
وأبصر أهل العلم أن ليس الغرض من سوقها قاصراً على حصول العبرة والموعظة مما تضمنته القصة من عواقب الخير أو الشر، ولا على حصول التنويه بأصحاب تلك القصص في عناية الله بهم، أو التشويه بأصحابها فيما لقوه من غضب الله عليهم، كما تقف عنده أفهام القانعين بظواهر الأشياء وأوائلها، بل الغرض من ذلك أسمى وأجل.
إن في تلك القصص لعبراً جمة، وفوائد للأمة؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها، ويعرض عما عداه؛ ليكون تعرضه للقصص منزهاً عن قصد التَفَكُّه بها.
من أجل ذلك كُلِّه لم تأت القصص في القرآن متتالية متعاقبة في سورة أو سور كما يكون كتاب تاريخ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها؛ لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع، هو ذكر وموعظة لأهل الدين؛ فهو بالخطابة أشبه.
وللقرآن أسلوبٌ خاص هو الأسلوب المعبر عنه بالتذكير، وبالذكر في آيات يأتي تفسيرها؛ فكان أسلوبه قاضياً للوطرين، وكان أجلُّ من أسلوب القصاصين في سَوْق القصص؛ لمجرد معرفتها؛ لأن سَوْقَها في مناسباتها يكسبها صفتين: صفة البرهان، وصفة التبيان.
١٤_ فقوله: [إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى]: استئناف ابتدائي لذكر قصة ضربت مثلاً لحال بعض كفار مكة وهم سادتهم مثل الوليد بن المغيرة وأبي جهل ابن هشام ولها مزيد تعلق بجملة: [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا] إلى قوله: [ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ].
ولهذه القصة اتصال بانتهاء قصة جند فرعون المنتهية عند قوله _تعالى_: [وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا] الآية.
و[قَارُوْنَ]: اسم معرب أصله في العبرانية (قُورَح) _بضم القاف مشبعة وفتح الراء_ وقع في تعريبه تغيير بعض حروفه للتخفيف، وأجري وزنه على متعارف الأوزان العربية مثل طالوت، وجالوت؛ فليست حروفه حروف اشتقاق من مادة قرن.
و(قورح) هذا ابن عم موسى _ عليه السلام _ دنيا، فهو قورح بن يصهار ابن قهات بن لاوي بن يعقوب.
وموسى هو ابن عمرم المسمى عمران في العربية ابن قاهت؛ فيكون يصاهر أخا عمرم.
وورد في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن (قورح) هذا تألب مع بعض زعماء بني إسرائيل مائتين وخمسين رجلاً منهم على موسى وهارون _عليهما السلام_ حين جعل الله الكهانة في بني هارون من سبط (لاوي) فحسدهم قورح؛ إذ كان ابن عمهم، وقال لموسى وهارون: ما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؛ إن الجماعة مقدسة، والرب معها؛ فغضب الله على قورح وأتباعه، وخسف بهم الأرض، وذهبت أموال (قورح) كلها، وكان ذلك حين كان بنو إسرائيل على أبواب (أريحا) قبل فتحها.
وذكر المفسرون أن فرعون كان جعل (قورح) رئيساً على بني إسرائيل في مصر، وأنه جمع ثروة عظيمة.
وما حكاه القرآن يبين سبب نشوء الحسد في نفسه لموسى؛ لأن موسى لما جاء بالرسالة، وخرج ببني إسرائيل زال تأمر(قارون) على قومه؛ فحقد على موسى. وقد أكثر القصاص من وصف بذخة قارون وعظمته ما ليس في القرآن، وما لهم به من برهان، وتلقفه المفسرون حاشا ابن عطية. ٢٠/١٧٤_١٧٥