ونجد من مميزات قصص القرآنِ نَسْجَ نظمها على أسلوب الإيجاز؛ ليكون شبهها بالتذكير أقوى من شبهها بالقصص، مثال ذلك قوله _تعالى_ في سورة القلم: [فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ].
فقد حكيت مقالته هذه في موقع تذكيره أصحابه بها؛ لأن ذلك مَحَزُّ حكايتها، ولم تحك أثناء قوله: [إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ] وقوله: [فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ].
ومن مميزاتها طَيُّ ما يقتضيه الكلام الوارد كقوله _تعالى_ في سورة يوسف: [وَاسْتَبَقَا الْبَابَ] فقد طُوي ذِكْرُ حضورِ سيدها، وطرقِه البابَ، وإسراعِهما إليه لفتحه؛ فإسراع يوسف، ليقطع عليها ما توسمه فيها من المَكْرِ بِهِ؛ لتري سيدها أنه أراد بها سوءاً، وإسراعها هي لضد ذلك؛ لتكون البادئة بالحكاية، فتقطع على يوسف ما توسمته فيه من شكاية، فدل على ذلك ما بعده من قوله: [وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً] الآيات.
ومنها أن القصص بُثَّت بأسلوب بديع؛ إذ ساقها في مظان الاتعاظ بها مع المحافظة على الغرض الأصلي الذي جاء به القرآن من تشريع وتفريع. ١/٦٤_٦٥
١_ هذا غرض له مزيد اتصال بالقرآن، وله اتصال متين بالتفسير؛ لأن ما يتحقق فيه ينتفع به في مواضع كثيرة من فواتح السور، ومناسبة بعضها لبعض؛ فيغني المفسر عن إعادته.
١٥_ وكلمة [وَيْكَأَنَّ]: عند الأخفش وقطرب مركبة من ثلاثة كلمات: (ويْ) وكاف الخطاب و(أن).
فأما (وي) فهي اسم فعل بمعنى: أعجب، وأما الكاف فهي لتوجيه الخطاب؛ تنبيهاً عليه مثل الكاف اللاحقة لأسماء الإشارة، وأما (أن) فهي (أن) المفتوحة الهمزة أخت (إن) المكسورة الهمزة فما بعدها في تأويل مصدر هو المتعجب منه، فيقدر لها حرفُ جَرٍّ مُلْتَزَمٌ حذفُه لكثرة استعماله، وكان حذفه مع (أن) جائزاً فصار في هذا التركيب واجباً، وهذا الحرف هو اللام أو (من) فالتقدير: أعجب يا هذا من بسط الله الرزق لمن يشاء.
وكل كلمة من هذه الكلمات الثلاث تستعمل بدون الأخرى فيقال: وي بمعنى أعجب، ويقال (ويك) بمعناه _أيضاً_ قال عنترة:

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنترُ أَقْدِمِ
ويقال: ويكأن، كما في هذه الآية، وقول سعيد بن زيد أو نبيه بن الحجاج السهمي:
ويكأن من يكن له نشب يُحْـ ـبَبْ ومن يفتقرْ يَعِشْ عيشَ ضرِّ فخفف
فخفف (أن) وكتبوها متصلة؛ لأنها جرت على الألسن كذلك في كثير الكلام، فلم يتحققوا أصل تركيبها.
وكان القياس أن تكتب (ويك) مفصولة عن (أن) وقد وجدوها مكتوبة مفصولة في بيت سعيد بن زيد.
وذهب الخليل، ويونس، وسيبويه، والجوهري، والزمخشري إلى أنها مركبة من كلمتين (وي) و(كأن) التي للتشبيه.
والمعنى: التعجب من الأمر، وأنه يشبه أن يكون كذا، والتشبيه مستعمل في الظن واليقين، والمعنى: أما تعجب كأن الله يبسط الرزق
وذهب أبو عمرو بن العلاء، والكسائي، والليث، وثعلب ونسبه في الكشاف إلى الكوفيين (وأبو عمرو بصري) أنها مركبة من أربع كلمات كلمة (ويل) وكاف الخطاب وفعل (اعلم) و(أن) وأصله: ويلك اعلم أنه كذا، فحذف لام الويل وحذف فعل (اعلم) فصار (وَيْكَأنّه).
وكتابتها متصلة على هذا الوجه متعينة؛ لأنها صارت رمزا لمجموع كلماته؛ فكانت مثل النحت.


الصفحة التالية
Icon