والعبرةُ فيها بتماثل صيغ الكلمات من حركات وسكون، وهي أكثر شبهاً بالتزام ما لا يلزم في القوافي، وأكثرها جارٍ على أسلوب الأسجاع.
والذي استخلصته _أيضاً_ أن تلك الفواصلَ كلَّها منتهى آيات، ولو كان الكلام الذي تقع فيه لم يتم فيه الغرض المسوق إليه، وأنه إذا انتهى الغرض المقصود من الكلام، ولم تقع عند انتهائه فاصلة لا يكون منتهى الكلام نهاية آية إلا نادراً كقوله _تعالى_: [ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ].
فهذا المقدار عُدَّ آية وهو لم ينته بفاصلة، ومثله نادر؛ فإن فواصل تلك الآيات الواقعة في أول السورة أقيمت على حرف مفتوح بعده ألف مد بعدها حرف، مثل: شقاق، مناص، كذاب، عجاب.
وفواصل بنيت على حرف مضموم مشبع بواو، أو على حرف مكسور مشبع بياء ساكنة، وبعد ذلك حرف، مثل: [أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ] [إِذْ يَسْتَمِعُونَ] [نَذِيرٌ مُبِينٌ] [ مِنْ طِينٍ].
فلو انتهى الغرض الذي سيق له الكلام وكانت فاصلة تأتي بعد انتهاء الكلام_ تكون الآية غير منتهية ولو طالت، كقوله _تعالى_: [قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ] إلى قوله: [وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ] فهذه الجمل كلها عدت آية واحدة. ١/٧٥_٧٦
٧_ واعلم أن هذه الفواصلَ من جملة المقصود من الإعجاز؛ لأنها ترجع إلى مُحَسِّنات الكلام، وهي من جانب فصاحة الكلام؛ فمن الغرض البلاغي الوقوف عند الفواصل؛ لتقع في الأسماع؛ فتتأثر نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل، كما تتأثر بالقوافي في الشعر، وبالأسجاع في الكلام المسجوع، فإن قوله _تعالى_: [إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ] إلى آخر الآيات، فقوله: [فِي الْحَمِيمِ] متصل بقوله: [يُسْحَبُونَ] وقوله: و [مِنْ دُونِ اللَّهِ] متصل بقوله: [تُشْرِكُونَ].
والتأسيْ في ذلك بأحوالِ الأممِ التي جاءتها الرسلُ، وأن محمداً " جاء بمثل ما جاؤوا به.
وما تخلل أخبار مَنْ ذُكر فيها من الرسل من العبر.
والاستدلالُ على أن القرآنَ منزلٌ من عند الله بدليل أُمِّيَةِ مَنْ أُنْزِلَ عليه ".
وتذكيرُ المشركين بنعم الله عليهم؛ ليقلعوا عن عبادةِ ما سواه.
وإلزامُهم بإثباتِ وحدانيته بأنهم يعترفون بأنه خالقُ مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض.
والاستدلالُ على البعثِ بالنظر في بدء الخلق، وهو أعجبُ من إعادته.
وإثباتُ الجزاء على الأعمال.
وتوعُّدُ المشركين بالعذاب الذي يأتيهم بغتةً وهم يتهكمون باستعجاله.
وضَرْبُ المثل لاتخاذ المشركين أولياء من دون الله بِمَثَلٍ وهي بيت العنكبوت. ٢٠/٢٠٠_٢٠١
٤_ [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
وإنما أمر بالسير في الأرض؛ لأن السير يدني إلى الرائي مشاهداتٍ جمةً من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحوِيَّاتها، ويمر به على منازل الأمم حاضرها وبائدها؛ فيرى كثيراً من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها؛ فإذا شاهد ذلك جال نظر فكره في تكوينها بعد العدم جولاناً لم يكن يخطر له ببال حينما كان يشاهد أمثال تلك المخلوقات في ديار قومه؛ لأنه لما نشأ فيها من زمن الطفولة فما بعده قبل حدوث التفكير في عقله اعتاد أن يمر ببصره عليها دون استنتاج من دلائلها حتى إذا شاهد أمثالها مما كان غائباً عن بصره جالت في نفسه فكرة الاستدلال؛ فالسير في الأرض وسيلة جامعة لمختلف الدلائل؛ فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة.


الصفحة التالية
Icon