وإذا وصل قوله: [قُتِلَ] عند قوله: [كَثِيرٌ] كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتل معهم رجال من أهل التقوى، فما وهن من بقي بعدهم من المؤمنين وذلك بمعنى قوله _تعالى_: [وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً] إلى قوله: [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ]. ١/٨٢
١٣_ ولما كان القرآن مراداً منه فهم معانيه، وإعجاز الجاحدين به، وكان قد نزل بين أهل اللسان _ كان فهم معانيه مفروغاً من حصوله عند جميعهم، فأما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم، بل خاصة بلغائهم من خطباء وشعراء، وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسنات الكلام من فن البديع، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر، وأسجاع النثر، وهي مرادة في نظم القرآن لا محالة كما قدمناه عند الكلام على آيات القرآن، فكان عدم الوقف عليها تفريطاً في الغرض المقصود منها. ١/٨٣
١٤_ سور القرآن: السورة قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية لا يتغيران، مسماة باسم مخصوص، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة، ناشئ عن أسباب النزول، أو عن مقتضيات ما تشتمل عليه من المعاني المتناسبة.
وكونُها تشتمل على ثلاث آياتٍ مأخوذٌ من استقراء سور القرآن مع حديث عمر فيما رواه أبو داود عن الزبير قال: =جاء الحارث بن خزيمة _هو المسمى في بعض الروايات خزيمة وأبا خزيمة_ بالآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما منه، ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة+ إلخ.
فدل على أن عمر ما قال ذلك إلا عن علم بأن ذلك أقل مقدار سورة.
وفيه اعتبار قيود في الصلاة لا تناسب التعميم، وإن كانت من شأن الصلاة التي يحق أن يلقنها المسلمون في ابتداء تلقينهم قواعد الإسلام.
والوجه عندي في معنى الآية: أن يحمل فعل [تَنْهَى] على المجاز الأقرب إلى الحقيقة، وهو تشبيه ما تشتمل عليه الصلاة بالنهي، وتشبيه الصلاة في اشتمالها عليه بالناهي، ووجه الشبه أن الصلاة تشتمل على مذكرات بالله من أقوال وأفعال من شأنها أن تكون للمصلي كالواعظ المذكر بالله _تعالى_ إذ ينهى سامعه عن ارتكاب ما لا يرضي الله.
وهذا كما يقال: صديقك مرآة ترى فيها عيوبك؛ ففي الصلاة من الأقوال تكبير لله، وتحميده، وتسبيحه، والتوجه إليه بالدعاء والاستغفار، وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد، والثناء على الله، والاعتراف بالعبودية له، وطلب الإعانة والهداية منه، واجتناب ما يغضبه وما هو ضلال، وكلها تذكر بالتعرض إلى مرضاة الله، والإقلاع عن عصيانه، وما يفضي إلى غضبه؛ فذلك صَدٌّ عن الفحشاء والمنكر.
وفي الصلاة أفعال هي خضوع وتذلل لله _تعالى_ من قيام وركوع وسجود، وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته، والتباعد عن سخطه، وكل ذلك مما يصد عن الفحشاء والمنكر.
وفي الصلاة أعمال قلبية من نية واستعداد للوقوف بين يدي الله، وذلك يذكر بأن المعبود جدير بأن تمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه.
فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر؛ فإن الله قال: [تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] ولم يقل تَصُدُّ وتَحُوْلُ، ونحو ذلك مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر.
ثم الناس في الانتهاء متفاوتون، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل؛ ليتجدد التذكير، وتتعاقب المواعظ.
وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس، وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها.