وللفلسفة والمنطق عند ابن عاشور مكانة وتقدير؛ فقد كان يدرِّس المنطق والحكمة، وكان كتاب النجاة للشيخ الرئيس أبي علي بن سينا من جملة الكتب التي درَّسها بجامع الزيتونة، جنباً إلى جنب مع المقدمة لابن خلدون، ودلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني، والموافقات للشاطبي.. إلخ.
وهو كثيراً ما يستشهد بأقوال الفلاسفة وينوه بآرائهم، ويوظف مناهجهم في استدلالاته وتحليلاته، ويدرأ ما حاق بأنظارهم من سوء فهم وسوء تأويل.
أما ما قد يثير الاستغراب حقّاً فهو صلته بالطب التي تحتاج إلى تحقيق، خاصة وأن له في هذا كتاباً مخطوطاً بعنوان تصحيح وتعليق على كتاب الانتصار لجالينوس للحكيم ابن زهر.
أما التاريخ فله فيه كذلك آثار ما تزال مخطوطة منها كتاب (تاريخ العرب) وكتابات في السير والتراجم+.(١)
وقال الميساوي: =ولكن على الرغم من سمات الغزارة والتنوع والشمول والأصالة التي طبعت شخصيته فاصطبغت بها آثاره وأعماله _ فإن ما صُرِف له من عناية الباحثين وجهود الدارسين لا يكاد يفي بمعشار ما يستحق، بل إن طوائف كبيرة من المهتمين بحركة الفكر الإسلامي ومصائره في العصر الحديث لا يكادون يعرفون عنه شيئاً ذا بال، ناهيك عن عامة المثقفين وسائر جمهور المسلمين.
فمن العسير العثور على دراسة علمية ضافية تترجم لشخصيته ترجمة موثقة ووافية، وتعرف بتراثه العلمي تعريفاً دقيقاً، فضلاً عن أن تحيط بذلك التراث تحليلاً لمكوناته وأبعاده، واستجلاءً لمواطن الأصالة والابتكار فيه، وتقديراً وتقويماً لمكانته في سياق حركة الفكر والثقافة الإسلاميين في موطن نشأته _تونس_ على وجه الخصوص، وفي العالم الإسلامي بوجه العموم.
بل إن آثاره العلمية لم يتح لها من الانتشار والتداول ما يجعلها في متناول الدارسين والباحثين، فضلاً عن سواهم من طلاب المعرفة والمثقفين.

(١) _ مقدمة مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي ص١٦_١٧.

أما أنا فالذي أراه أن المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس في أيام الحج؛ لينتفع بها المحتاجون في عامهم _ أوفق بمقصد الشارع؛ تجنباً لإضاعة ما فضل منها؛ رعياً لمقصد الشريعة من نفع المحتاج، وحفظ الأموال مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليه منها المشار إليه بقوله _تعالى_: [فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ] وقوله: [كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ] جمعاً بين المقاصد الشرعية.
وتَعْرِضُ صورة أخرى وهي توزيع المقادير الكافية للانتفاع بها على أيام النحر الثلاثة بحيث لا يتعجل بنحر جميع الهدايا في اليوم الأول؛ طلباً لفضيلة المبادرة؛ فإن التقوى التي تصل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها.
وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفرس الحُبْس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع، وفي المعاوضة لربع الحبس إذا خرب. ١٧/٢٦٨_٢٦٩
١٢_ وحكم الهدايا مركب من تعبد وتعليل، ومعنى التعليل فيه أقوى، وعلته انتفاع المسلمين، ومسلكُ العلةِ الإيماءُ الذي في قوله _تعالى_: [فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ].
واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء_ عقيدة وثنية قديمة؛ فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام؛ فلا يدعون أحداً يأكله، وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رماداً ويتوهمون أن رائحة الشواء تسر الآلهةَ المُتَقَرَّبَ إليها بالقرابين.
وكان المصريون يلقون الطعام للتماسيح التي في النيل؛ لأنها مقدسة. ١٧/٢٦٩


الصفحة التالية
Icon