١_ لم أر غرضاً تناضلت له سهام الأفهام، ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم، فرجعت دونها حسرى، واقتنعت بما بلغته من صبابة نزراً _ مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن؛ فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل، ومَوْرِدَها للمعلول والناهل، ومُغْلَى سبائها للنديم والواغل.
ولقد سبق أن أُلِّف عِلْمُ البلاغة مشتملاً على نماذج من وجوه إعجازه، والتفرقة بين حقيقته ومجازه، إلا أنه باحثٌ عن كل خصائص الكلام العربي البليغ؛ ليكون معياراً للنقد أو آلة للصنع، ثم ليظهر من جراء ذلك كيف تفوق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر فيه من الخصائص التي لا تجتمع في كلام آخر للبلغاء حتى عجز السابقون واللاحقون منهم عن الإتيان بمثله.
قال أبو يعقوب السكاكي في كتاب المفتاح: =واعلم أني مهدت لك في هذا العلم قواعد متى بنيت عليها أعجب كل شاهد بناؤها، واعترف لك بكمال الحذق في البلاغة أبناؤها+.
إلى أن قال: =ثم إذا كنت ممن ملك الذوق، وتصفحت كلام رب العزة_ أطلعْتُك على ما يوردك موارد العزة، وكشفت عن وجه إعجازه القناع+ اهـ. ١/١٠١
٢_ فأما أنا فأردت في هذه المقدمة أَنْ أُلِمَّ بك _ أيها المتأمل _ إلمامةً ليست كخطرة طيف، ولا هي كإقامة المُنْتَجِعِ في المَرْبَع؛ حتى يظله الصيف، وإنما هي لمحة ترى منها كيف كان القرآن معجزاً، وتتبصر منها نواحي إعجازه، وما أنا بمستقصٍ دلائل الإعجاز في آحاد الآيات والسور؛ فذلك له مصنفاته، وكل صغير وكبير مستطر، ثم ترى منها بلاغة القرآن، ولطائف أدبه التي هي فتح لفنون رائعة من أدب لغة العرب؛ حتى ترى كيف كان هذا القرآن فتح بصائر، وفتح عقول، وفتح ممالك، وفتح أدبٍ غَضٍّ ارتقى به الأدب العربي مرتقىً لم يبلغه أدبُ أمةٍ من قبل.
٦_ روى الترمذي بأسانيد حسنة وصحيحة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب مثلهم، فكانت فارس يوم نزلت [الم غُلِبَتْ الرُّومُ] قاهرين للروم؛ فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله"فقال رسول الله: =أما أنهم سيغلبون+.
ونزلت هذه الآية، فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة: [الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ].
فقال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين؛ أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى وذلك قبل تحريم الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين، فَسَمِّ بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه، فسمى أبو بكر لهم ست سنين؛ فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضعوا الرهان، فمضت الست السنين قبل أن يظهر الروم، فأخذ المشركون رهن أبي بكر.
وقال رسول الله"لأبي بكر: =ألا أخفضت يا أبا بكر، ألا جعلته إلى دون العشر؛ فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع+.
وعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين، وأسلم عند ذلك ناس كثير.
وذكر المفسرون أن الذي راهن أبا بكر هو أبي بن خلف، وأنهم جعلوا الرهان خمس قلائص.
وفي رواية أنهم بعد أن جعلوا الأجل ستة أعوام غيروه، فجعلوه تسعة أعوام، وازدادوا في عدد القلائص، وأن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي"تعلق به أبي بن خلف وقال له: أعطني كفيلاً بالخطر إن غلبت، فكفل به ابنه عبدالرحمن، وكان عبد الرحمن أيامئذ مشركاً باقياً بمكة، وأنه لما أراد أبي ابن خلف الخروج إلى أحد طلبه عبدالرحمن بكفيل، فأعطاه كفيلاً، ثم مات أبي بمكة من جرح جرحه النبي"فلما غلب الروم بعد سبع سنين أخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي بن خلف.
وقد كان تغلب الروم على الفرس في سنة ست وورد الخبر إلى المسلمين.