وقد استقريت أنا من أساليب القرآن أنه إذا حكى المحاورات والمجاوبات حكاها بلفظ =قال+ دون حروف عطف، إلا إذا انتقل من محاورة إلى أخرى، انظر قوله _تعالى_: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] إلى قوله: [أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]. ١/١٢٥
١٩_ إن العلم نوعان علم اصطلاحي، وعلم حقيقي، فأما الاصطلاحي فهو ما تواضع الناس في عصر من الأعصار على أن صاحبه يعد في صف العلماء، وهذا قد يتغير بتغير العصور، ويختلف باختلاف الأمم والأقطار، وهذا النوع لا تخلو عنه أمة.
وأما العلم الحقيقي فهو معرفةُ ما بمعرفته كمال الإنسان، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف، وإدراك الحقائق النافعة عاجلاً وآجلاً، وكلا العِلْمين كمال إنساني، ووسيلة لسيادة أصحابه على أهل زمانهم، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه، وهذه الجهة خلا عنها كلام فصحاء العرب؛ لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات، والمتخيلات، والافتراضات المختلفة، ولا تحوم حول تقرير الحقائق، وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن، ولم يقل إلا صدقاً كما أشار إليه فخر الدين الرازي.
وذَكَرَتْ مزيةَ دين الإسلام، وتسليةَ الرسول " بتمسك المسلمين بالعروة الوثقى، وأنه لا يُحْزِنُه كُفْرُ مَنْ كفروا.
وانتظم في هذه السورة الردُّ على المعارضين للقرآن في قوله: [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ] وما بعدها، وخُتِمَتْ بالتحذير من دعوة الشيطان، والتنبيه إلى بطلان ادعاءِ الكهان عِلْم الغيب. ٢١/١٣٨_١٣٩
٥_ واللهو: ما يقصد منه تشغيل البال، وتقصير طول وقت البطالة دون نفع؛ لأنه إذا كانت في ذلك منفعة لم يكن المقصود منه اللهو بل تلك المنفعة.
و[لَهْوَ الْحَدِيثِ] ما كان من الحديث مراداً للهو؛ فإضافة [لَهْوَ] إلى [الْحَدِيثِ] على معنى من التبعيضية على رأي بعض النحاة، وبعضهم لا يثبت الإضافة على معنى من التبعيضية؛ فيردها إلى معنى اللام.
وتقدم اللهو في قوله: [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ] في سورة الأنعام.
والأصح في المراد بقوله: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ] أنه النضر ابن الحارث؛ فإنه كان يسافر في تجارة إلى بلاد فارس؛ فيتلقى أكاذيب الأخبار عن أبطالهم في الحروب المملوءة أكذوبات، فيقصها على قريش في أسمارهم ويقول: إن كان محمد يحدثكم بأحاديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم واسفنديار وبهرام.
ومن المفرسين(١) من قال: إن النضر كان يشتري من بلاد فارس كتب أخبار ملوكهم، فيحدث بها قريشاً، أي بواسطة من يترجمها لهم.
ويشمل لفظ [النَّاسِ] أهلَ سامرِه الذين ينصتون لما يقصه عليهم كما يقتضيه قوله _تعالى_ إثره: [أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ].
وقيل المراد بـ[مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ] من يقتني القينات المغنيات.
روى الترمذي عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبي أمامة عن رسول الله"قال: =لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام+.

(١) _ هكذا في الأصل، والصواب: المفسرين. (م)


الصفحة التالية
Icon