ج ٢٧، ص : ٣٠
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن العذاب واقع بالكافرين لا محالة، وأن الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيون بأعمالهم، وأن الرسول على الحق المبين الذي من كذبه باء بغضب من اللّه، ومن صدّقه استحق رضوانه ومغفرة من لدنه - أمر رسوله هنا بالثبات على التذكر والموعظة، وعدم المبالاة بما يكيد به أولئك الكائدون، فإنه هو الغالب حجة وسيفا فى هذه الدار، ومنزلة ورفعة فى دار القرار ثم ذكر تناقض أقوالهم لينبه إلى فساد آرائهم، وإلى أنهم ما أعرضوا عن الحق إلا اتباعا للهوى لا اتباعا للدليل والبرهان، وفى ذلك تسلية لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم كما لا يخفى، إذ ما أبعد حال من كان أرجحهم عقلا، وأبينهم قولا، منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشد، من الجنون والكهانة، إلى ما فى هذا من التناقض والاضطراب، فإن الكهان كانوا من الكملة وكان قولهم مقنعا، فأين هذا من الجنون، ثم ترقّوا فى نسبته إلى الكذاب، فقالوا إنه شاعر، وأعذب الشعر أكذبه، ثم قالوا فلنصبر عليه، ولنتربص به صروف الدهر وأحداثه، فسيكون حاله حال زهير والنابغة وأضرابهم ممن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر، ثم أمره بتهديدهم بمثل صنيعهم بقوله :« قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ » ثم زاد فى تسفيه أحلامهم بأن مصدر هذا التكذيب إما كتاب أنزل عليهم بذلك وإما أن عقولهم تأمرهم بما يقولون، لا بل الحق أنهم قوم طاغون يفترون ويقولون ما لا دليل عليه لا من كتاب ولا مقتضى له من عقل، ثم زادوا فى الإنكار ونسبوه إلى التقول والافتراء، فإن صح ما يقولون فليأتوا بمثل أقصر سورة من مثل هذا المفترى إن كانوا صادقين، لا بل هم قوم جاحدون لا يؤمنون فليقولوا ما تسوّله لهم أنفسهم فإن اللّه قد أعمى بصائرهم، فهم لا أحلام لهم تميز الحق من الباطل، والغث من السمين فامض لشأنك، ولا تأبه لمقالهم فاللّه معك، ولن يترك شيئا من أعمالك.