وذلك تحت عنوان "عن فلسفة الجوع" ذكر فيه أن الجوع ليس طابع الصوم، وقال في الحلقة الثانية: "حدثتكم قبل عن الفقهاء وتعريفهم الصوم بالجوع وترك الأكل والشرب... إلخ، وإدارتهم الشاهد العقلي لفرضية الصوم على فعل الجوع بالنفس وردهم حكمة الصوم إلى أثر الجوع أيضا، كما رأينا الصوفية يفلسفون هذا الجوع، فيسببون به كل خير كما ينسبون إلى شهوة الطعام كل شر، ويروون في فضل الجوع ما يرووون مما يعدونه حديثًا، ويذكرون مآثر العابدين في الصوم ومدته ونريد هنا أن نعرض هذه الآراء على هدي القرآن لنرى إلى أي مدى يؤيدها أو يرفضها فاستمع إليه حين يقول لقريش: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ ١، فيعد نعمتي الإطعام والإيمان اللتين خلص بهما قريشا من نقمتي الجوع والخوف. وهو بمثل هذا يعد نعم الجنة. دارالنعيم المقيم والسعادة الكبرى فيقول لآدم: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى﴾ ٢، فالجوع والعري والظمأ والضحو -بالتعرض للشمس وحرها- كلها آلام يأمن منها من يكون في الجنة وإذا نعم أهل الجنة بألا يجوعوا فقد شقى أهل الجحيم في وصف القرآن بألا يجدوا إلا ما لا يشبع فقال عنهم: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ ٣.
وعلى هذا ندرك أن الجوع والحرمان من الطعام لون من العذاب القاسي في تعبير القرآن الأدبي، وحسه الفني، الذي نفرغ إليه كما اتفقنا لمعرفة نظرة القرآن إلى الجوع.
ولعلنا نستطيع أن نقول؛ بعد الذي أنسنا إليه من هدي القرآن: إن ما اتجه إليه القوم من تلمس الآثار في فضل الجوع وفلسفتهم لذلك الجوع على ما سمعناها منهم ليس مما يرحب به هدي القرآن كثيرا وليس بكثير أن

١ سورة قريش: الآية ٣-٤.
٢ سورة طه: الآية ١١٨-١١٩.
٣ سورة الغاشية: الآية ٦-٧.


الصفحة التالية
Icon