ج ١٤، ص : ٧١٠
إليهم ملئوا لكل كأسه الذي يشرب منه، ولم يجيئوا إليهم بها مملوءة جميعها مرة واحدة.. ومثل هذا قوله تعالى :« وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا » (١٧ : الإنسان) وقوله سبحانه :« يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ » (٢٣ : الطور).
قوله تعالى :« لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ » أي لا يصيبهم من شرب هذه الخمر ما يصيب شاربى خمر الدنيا من صداع، إذا جاوز الشارب قدرا معينا منها.. فهذه الخمر التي تقدّم لهؤلاء السابقين المقربين، لا يصيبهم منها هذا الصداع مهما شربوا منها، ومهما علّوا ونهلوا.
وقد ضمّن « يصدّعون » معنى الفعل « يصرفون » من غير أن يزايله المعنى الأصلى الذي له، وهو الصداع.. والمعنى أنهم لا يصرفون عن هذه الخمر بسبب صداع يصيبهم منها.. وهذا إعجاز من إعجاز النظم القرآنى.
وقوله تعالى :« وَلا يُنْزِفُونَ » أي لا يستهلكون لذتهم فيها يشرب ما يشربون منها، كما يحدث ذلك لشارب خمر الدنيا.. حيث تذهب لذة مدمنها بعد قدر محدود منها، بل إن لذتهم باقية أبدا، وإن ظلوا فى شرب دائم لا ينقطع.
وهذا هو بعض الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. فإن نعيم الدنيا ـ أو ما يسمى نعيما ـ إذا ناله المريء وأخذ منه حاجته، زهد فيه، وأصبح أىّ قدر يناله منه بعد هذا، مبعثا للألم، بل وضربا من العذاب.. أما نعيم الجنة، فإن لذته لا تنفد أبدا، ولا تنقطع شهوة المتصل به على امتداد الأزمان والآباد.. بل إنه كلما ازداد تناولا للشىء تجددت له لذات جديدة معه..
قوله تعالى :« وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ».