ج ٤، ص : ١٢٣
البلغاء، فلن يقبل فى نظم القرآن، الذي يعلو ببلاغته عن هذا المعيار الإنسانى..
فإذا كرر القرآن الكريم اللفظ مرة ومرة ومرات، لم ينزله ذلك قيد شعرة عن مكانه السامي من الفصاحة والبيان، وجاء التكرار كلا تكرار، فى روعة الأداء، وتجاوب النغم، وحلاوة الجرس.. وكم كرّر القرآن من ألفاظ، وحروف، فكان اجتماعها إعجازا من إعجاز القرآن، وآية من آيات رب العالمين! وسنعرص لهذا فى بحث خاص به إن شاء اللّه.
فلا بد إذن أن يكون لهذا الاختلاف فى النظم بين « خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » « وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ » داعية، استدعته وغاية أربد به تحقيقها.
والقرآن الكريم قد فرق بين الخلق والجعل فى المعنى، كما هما مفترقان فى اللفظ..
« فالخلق » فى القرآن ـ فى كل موضع ورد فيه ـ هو الإيجاد، إيحاد غير الموجود، وإظهاره للوجود..
« خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ».
. « خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ».
. « يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ».
. « اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ».
. فالخلق، وهو الإيجاد من عدم، هو مما انفرد به اللّه سبحانه وتعالى، ولهذا كان من صفاته الكريمة :« الخالق ».
أما « الجعل » فهو إضافة تلحق المخلوق، وتكشف عن صفته، وتبرز طبيعته.. هو توجيه الخالق للمخلوق، ليعطى وظيفته، ويحقق وجوده..
« إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها » (٧ : الكهف).. « وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً » (٩ ـ ١١ : النبأ)..
« وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا »، (٢٤ : السجدة).. « وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً » (١٤٣ : البقرة).