بحث
قال فى الميزان :
وفي قوله تعالى :﴿لا إكراه في الدين﴾، نفى الدين الإجبارى، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادية، وأما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علما، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقا علميا، فقوله : لا إكراه في الدين، إن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكما دينيا بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكما إنشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله :" قد تبين الرشد من الغي"، كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرها، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية، وهي التي مر بيانها أن الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية.
وقد بين تعالى هذا الحكم بقوله :" قد تبين الرشد من الغي"، وهو في مقام التعليل فإن الإكراه والإجبار إنما يركن إليه الآمر الحكيم والمربي العاقل في الأمور المهمة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات أخرى، فيتسبب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأما الأمور المهمة التي تبين وجه الخير والشر فيها، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لما انكشفت حقائقه واتضح طريقه بالبيانات الإلهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد والرشد في اتباعه، والغي في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحدا على الدين.