وعن الحجة الثانية بأن المراد من الملك هاهنا التمكن والقدرة والبسطة في الدنيا، والحس يدل على أنه تعالى قد يعطي الكافر هذا المعنى، وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى أعطاه الملك حال ما كان مؤمناً، ثم أنه بعد ذلك كفر بالله تعالى.
وعن الحجة الثالثة بأن إبراهيم عليه السلام وإن كان أقرب المذكورين إلا أن الروايات الكثيرة واردة بأن الذي حاج إبراهيم كان هو الملك، فعود الضمير إليه أولى من هذه الجهة، ثم احتج القائلون بهذا القول على مذهبهم من وجوه الأول : أن قوله تعالى :﴿أَنْ آتاه الله الملك﴾ يحتمل تأويلات ثلاثة، وكل واحد منها إنما يصح إذا قلنا : الضمير عائد إلى الملك لا إلى إبراهيم، وأحد تلك التأويلات أن يكون المعنى حاج إبراهيم في ربه لأجل أن آتاه الله الملك، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك، ومعلوم أن هذا إنما يليق بالملك العاتي، والتأويل الثاني أن يكون المعنى أنه جعل محاجته في ربه شكراً على أن آتاه ربه الملك، كما يقال : عاداني فلان لأني أحسنت إليه، يريد أنه عكس ما يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان، ونظيره قوله تعالى :﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ﴾ [ الواقعة : ٨٢ ] وهذا التأويل أيضاً لا يليق بالنبي فإنه يجب عليه إظهار المحاجة قبل حصول الملك وبعده
أما الملك العاتي فإنه لا يليق به إظهار هذا العتو الشديد إلا بعد أن يحصل الملك العظيم له، فثبت أنه لا يستقيم لقوله ﴿أَنْ آتاه الله الملك﴾ معنى وتأويل إلا إذا حملناه على الملك العاتي.
الحجة الثانية : أن المقصود من هذه الآية بيان كمال حال إبراهيم ﷺ في إظهار الدعوة إلى الدين الحق، ومتى كان الكافر سلطاناً مهيباً، وإبراهيم ما كان ملكاً، كان هذا المعنى أتم مما إذا كان إبراهيم ملكاً، ولما كان الكافر ملكاً، فوجب المصير إلى ما ذكرنا.