وقال ابن عاشور :
وقد علمتَ ممّا تقدم عند قوله تعالى :﴿ فاكتبوه ﴾ أنّ آية ﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً فليود الذي أؤتمن أمانته ﴾ تعتبر تكميلاً لطلب الكتابة والإشهادِ طلَبَ ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى :﴿ فاكتبوه ﴾ على معنى الندب والاستحباب، وهم الجمهور.
ومعنى كونها تكميلاً لذلك الطلب أنّها بيّنت أنّ الكتابة والإشهاد بين المتداينين، مقصود بهما حسن التعامل بينهما، فإن بدَا لهما أن يأخذا بهما فنعمَّا، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أمانٍ بينهما فلهما تركهما.
وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤدّيا الأمانة ويتّقيا الله.
وتقدم أيضاً أنّ الذين قالوا بأنّ الكتابة والإشهاد على الديون كان واجباً ثم نسخ وجوبه، ادّعوا أنّ ناسخه هو قوله تعالى :﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً ﴾ الآية، وهو قول الشعبي، وابن جريج، وجابر بن زيد، والربيع بن سليمان، ونسب إلى أبي سعيد الخدري.
ومحمل قولهم وقولِ أبي سعيد إن صحّ ذلك عنه أنّهم عنّوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة.
وتسميةُ مثل ذلك نسخاً تسمية قديمة.
أمّا الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكمَا مُحْكَما، ومنهم الطبري، فقصروا آية ﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً ﴾ الآية على كونها تكملةً لصورة الرهن في السفر خاصة، كما صرّح به الطبري ولم يأت بكلام واضح في ذلك ولكنّه جمجم الكلام وطَوَاه.
ولَوْ أنّهم قالوا : إنّ هذه الآية تعني حالةَ تعذّر وجود الرهن في حالة السفر، أي فلم يبق إلاّ أن يأمن بعضكم فالتقدير : فإن لم تجدوا رهناً وأمن بعضكم بعضاً إلى آخره لكان له وجه، ويُفهم منه أنّه إن لم يأمنه لا يداينه، ولكن طُوى هذا ترغيباً للناس في المواساة والاتِّسام بالأمانة.
وهؤلاء الفرق الثلاثة كلّهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثّق في الديون.


الصفحة التالية
Icon