وأظهر ممّا قالوه عندي : أنّ هذه الآية تشريع مستقلّ يعم جميع الأحوال المتعلّقة بالديون : من إشهاد، ورهنٍ، ووفاءٍ بالدّين، والمتعلّقةِ بالتبايع، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة ﴿ بعض ﴾ ليشمَل الائتمان من كلا الجانبين : الذي من قبل ربّ الدين، والذي من قبل المدين.
فربّ الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر.
والمدين يأتمن الدائنَ إذا سَلَّم له رهناً أغلى ثمناً بكثير من قيمة الدين المرتهَن فيه، والغالب أنّ الرهان تكون أوْفَرَ قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها، فأمر كلّ جانب مؤتمننٍ أن يؤدّي أمانته، فأداءُ المدين أمانته بدفع الدين، دون مطل، ولا جحود، وأداء الدائن أمانته إذا أعطي رهناً متجاوزَ القيمةِ على الدّين أن يردّ الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدّين ؛ لأنّ الرهن أوفر منه، ولا ينقص شيئاً من الرهن.
ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين : معنى الصفة التي يتَّصف بها الأمين، ومعنى الشيء المؤمَّن.
فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلَق الرهن : وهو أن يصير الشيء المرهون ملكاً لربّ الدّين، إذا لم يدفع الدينَ عند الأجل، قال النبي ﷺ " لا يَغْلق الرهنُ " وقد كان غَلق الرهن من أعمال أهل الجاهلية، قال زهير :
وفارقَتْكَ برَهْنٍ لا فَكَاكَ له
عند الوَداع فأمسى الرهن قد غَلِقا...
ومعنى ﴿ أمن بعضكم بعضاً ﴾ أن يقول كلا المتعاملين للآخر : لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضاً، وذلك كي لا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنّة اتّهام أحد المتداينين الآخر.
وزيد في التحذير بقوله :﴿ وليتق الله ربه ﴾، وذِكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله :" وليتّق ربّه" لإدخال الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٣ صـ ١٢٣ ـ ١٢٥﴾
فائدة
قال الآلوسى :