وإذ قد علمتَ آنفاً أنّ الله أنبأنا بأنّ مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله :﴿ وأقوم للشهادة ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ]، وأنّه حرّض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طُلب بقوله :﴿ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] فعُلم من ذلك كلّه الاهتمام بإظهار الشهادة إظهاراً للحق.
ويؤيّد هذا المعنى ويزيده بياناً : قول النبي ﷺ " ألاَ أخْبِرُكُم بخَيْر الشهداءِ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألَها " رواه مالك في " الموطّأ"، ورواه عنه مسلم والأربعة.
فهذا وجه تفسير الآية تظاهرَ فيه الأثر والنظرُ.
ولكن روى في " الصحيح" عن أبي هريرة : أنّ رسول الله ﷺ قال :" خيرُ أمَّتِي القرنُ الذي بُعِثْتُ فيهم ثم الذين يلونهم قالها ثانية وشكّ أبو هريرة في الثالثة ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا " الحديثَ.
وهو مسوق مساق ذَمِّ مَن وصفهم بأنّهم يشهدون قبل أن يُستشهدوا، وأنّ ذمّهم من أجل تلك الصفة.
وقد اختلف العلماء في محمله ؛ قال عياض : حمله قوم على ظاهره من ذمّ من يَشهد قبل أن تطلب منه الشهادة، والجمهور على خلافه وأنّ ذلك غير قادح، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهِد كاذباً، وإلاّ فقد جاء في " الصحيح" :" خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسْألَها ".
وأقول : روى مسلم عن عِمران بن حُصَين : أنّ رسول الله ﷺ قال :" إنّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم قالها مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون " الحديث.