ولما كانت الكتابة لأجل إقامة الشهادة وكانت الأنفس مجبولة على الشح مؤسسة على حب الاستئثار فيحصل بسبب ذلك مخاصمات ويشتد عنها المشاحنات وربما كان بعض المخاصمين ممن يخشى أمره ويرجى بره فيحمل ذلك الشهود على السكوت قال سبحانه وتعالى :﴿ولا تكتموا الشهادة﴾ أي سواء كان صاحب الحق يعلمها أو لا.
ولما نهى أتبع النهي التهديد فقال :﴿ومن يكتمها فإنه آثم﴾ ولما كان محلها القلب الذي هو عمدة البدن قال :﴿قلبه﴾ ومن أثم قلبه فسد،
ومن فسد قلبه فسد كله،
لأن القلب قوام البدن،
إذا فسد فسد سائر الجسد.
ولما كان التقدير : فإن الله سبحانه وتعالى عالم بأنه كتم وكان للشهداء جهات تنصرف بها الشهادة عن وجه الإقامة عطف عليه قوله - ليشمل التهديد تلك الأعمال بإحاطة العلم :﴿والله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال.
ولما كان الإنسان هو المقصود الأعظم من سائر الأكوان فكانت أحواله مضبوطة بأنواع من الضبط كأن العلم البليغ مقصور عليه فلذلك قدم قوله :﴿بما تعملون﴾ أي كله وإن دق سواء كان فعل القلب وحده أو لا ﴿عليم﴾ قال الحرالي : فأنهى أمر ما بين الحق والخلق ممثولاً وأمر ما بين الخلق والخلق مثلاً - انتهى. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ١ صـ ٥٥٠ ـ ٥٥١﴾
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام : بيع بكتاب وشهود، وبيع برهان مقبوضة، وبيع الأمانة، ولما أمر في آخر الآية المتقدمة بالكتبة والإشهاد، وأعلم أنه ربما تعذر ذلك في السفر إما بأن لا يوجد الكاتب، أو إن وجد لكنه لا توجد آلات الكتابة ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرهن فهذا وجه النظم وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتبة والإشهاد. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٧ صـ ١٠٤﴾
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾


الصفحة التالية
Icon