فَالْأَنْعَامُ الَّتِي يَنْحَصِرُ اسْتِعْدَادُهَا فِيمَا بِهِ حِفْظُ وَجُودِهَا الشَّخْصِيِّ وَالنَّوْعِيِّ لَا تَمِيلُ إِلَّا إِلَى الْغِذَاءِ لِحِفْظِ الْأَوَّلِ وَالنَّزَوَانِ لِحِفْظِ الثَّانِي، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَهُ اسْتِعْدَادٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ حَدٌّ وَلَا نِهَايَةٌ وَمَيْلُهُ أَوْ حُبُّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَلَا نِهَايَةٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا تَقِفُ الْأَمْرَاضُ الرُّوحِيَّةُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ أَوْ جَمْعِيَّاتِهِ عِنْدَ حُدُودٍ مُعَيَّنَةٍ لِفَسَادٍ فِي التَّرْبِيَةِ وَمَرَضٍ فِي مِزَاجِ الِاجْتِمَاعِ، وَهَذَا الِاسْتِعْدَادُ وَمَا يَتْبَعُهُ أَنْصَعُ الدَّلَائِلِ عِنْدَ الْعَالِمِينَ بِنِظَامِ الْأَكْوَانِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ وَأَنَّ لَهُ حَيَاةً أُخْرَى يَنَالُ بِهَا كُلَّ مَا خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لَهُ مِنَ الْعِرْفَانِ، وَأَعْلَاهُ الْكَمَالُ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ.
يُحِبُّ الْإِنْسَانُ جَمَالَ الطَّبِيعَةِ، وَيُطْرِبُهُ خَرِيرُ الْمِيَاهِ وَحَفِيفُ الرِّيَاحِ، وَتَغْرِيدُ الْأَطْيَارِ عَلَى أَفْنَانِ الْأَشْجَارِ، فَيَبْذُلَ الْمَالَ الْكَثِيرَ لِإِنْشَاءِ الْحَدَائِقِ وَالْجَنَّاتِ وَاجْتِلَابِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي بِلَادِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّيْرِ وَالنَّبَاتِ، يَعْشَقُ جَمَالَ الصَّنْعَةِ فَيُنْفِقُ الْقَنَاطِيرَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ الْبَدِيعَةِ وَالنُّقُوشِ الدَّقِيقَةِ، يَهْوَى