ولما كان كأنه قيل : فما كان يقول لها إذا رأى ذلك ؟ قيل : كان كلما وجد ذلك، أو : لما تكرر وجدانه لذلك ﴿قال يا مريم أنّى﴾ أي من أين ﴿لك هذا﴾ قال الحرالي : كلمة أنى تشعر باستغرابه وجود ذلك الرزق من وجوه مختلفة : من جهة الزمان أنه ليس زمانه، ومن جهة المكان أنه ليس مكانه، ومن جهة الكيف ووصوله إليها أنه ليس حاله، وفي ذكر الضمير في قوله :﴿قالت هو من عند الله﴾ إيذان بنظرها إلى مجموع حقيقة ذلك الرزق لا إلى أعيانه، فهو إنباء عن رؤية قلب، لا عن نظر عين لأن هو كلمة إضمار جامعة لكل ما تفصلت صورة مما اتحد مضمره، ولما لم يكن من معهود ما أظهرته حكمته سبحانه مما يجريه على معالجات أيدي الخلق قالت ﴿من عند الله﴾ ذي الجلال والإكرام، لأن ما خرج من معهود معالجة الحكمة فهو من عنده، وما كان مستغرباً فيما هو من عنده فهو من لدنه، فهي ثلاث رتب : رتبة لدنية، ورتبة عندية، ورتبة حكمية عادية ؛ فكان هذا وسط الثلاث - كما قال تعالى :﴿آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنه علماً﴾ [ الكهف : ٦٥ ] حيث كان مستغرباً عند أهل الخصوص كما قال :﴿أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً﴾ [ الكهف : ٧١ ] والإمر العجب، ولعلو رتبته عن الرتبة العادية جرى النبأ عنه مضافاً إلى الاسم العظيم الذي هو مسمى الأسماء كلها من حيث لم يكن ﴿من عند ربي﴾ لما في ذكر اسم الربوبية من إشعار بمادة أو قريب منها أو ما كان من نحوها كما قال ﴿هذا من فضل ربي﴾ [ النمل : ٤٠ ] لما كان من عادته المكنة على الملوك، وكان ممكناً فيما أحاط به موجود الأركان الأربعة - انتهى.
ولما أخبرت بخرقه سبحانه وتعالى لها العادة عللت ذلك بقولها مؤكدة تنبيهاً على أن ذلك ليس في قدرة ملوك الدنيا :﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكلية.