اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى :﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ القرى﴾ [ يوسف : ١٠٩ ] وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها إما أن يكون كرامة لها، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء، أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام، وذلك جائز عندنا، وعند الكعبي من المعتزلة، أو معجزة لزكرياء عليه السلام، وهو قول جمهور المعتزلة، ومن الناس من قال : إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب، كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله ﴿وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى﴾ [ القصص : ٧ ]. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٨ صـ ٣٨﴾
فصل
قال الفخر :
اعلم أن المذكور في هذه الآية أولاً : هو الاصطفاء، وثانياً : التطهير، وثالثاً : الاصطفاء على نساء العالمين، ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولاً من الاصطفاء الثاني، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها.
النوع الأول من الاصطفاء : فهو أمور
أحدها : أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث
وثانيها : قال الحسن : إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، وكان رزقها يأتيها من الجنة
وثالثها : أنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة
ورابعها : أنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى :﴿أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله﴾
وخامسها : أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول، وأما التطهير ففيه وجوه