وما صدقُ ( ما ) في قوله :﴿مما تحبون﴾ المال : أي المال النَّفيس العزيز على النَّفس، وسوّغ هذا الإبهام هنا وجود تنفقوا إذ الإنفاق لا يطلق على غير بذل المال ف ( من ) للتبعيض لا غير، ومن جوّز أن تكون ( من ) للتبيين فقد سها لأنّ التبيينية لا بدّ أن تُسبق بلفظ مبهم.
والمال المحبوب يختلف باختلاف أحوال المتصدّقين، ورغباتهم، وسعة ثرواتهم، والإنفاقُ منه أي التّصدق دليل على سخاءٍ لوجه الله تعالى، وفي ذلك تزكية للنّفس من بقية ما فيها من الشحّ، قال تعالى :﴿ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون﴾ [ الحشر : ٩ ] وفي ذلك صلاح عظيم للأمّة إذ تجود أغنيَاؤها على فقرائها بما تطمح إليه نفوسهم من نفائس الأموال فتشتدّ بذلك أواصر الأخوّة، ويهنأ عيش الجميع.
وقد بيَّن الله خصال البِرّ في قوله :﴿ولكن البر من آمن باللَّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنَّبيّين وآتى المال على حُبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقامَ الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس﴾ في سورة [ البقرة : ١٧٧ ].
( فالبرّ هو الوفاء بما جاء به الإسلام ممَّا يعرض للمرء في أفعاله، وقد جمع الله بينه وبين التَّقوى في قوله :﴿وتعاونوا على البِر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾ [ المائدة : ٢ ] فقابل البرّ بالإثم كما في قول النبي ﷺ في حديث النّواس بن سِمْعان المتقدّم آنفاً.
وقوله :﴿وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم﴾ تَذْييل قُصد به تعميم أنواع الإنفاق، وتبيين أنّ الله لا يخفى عليه شيء من مقاصد المنفقين، وقد يكون الشيء القليل نفيساً بحسب حال صاحبه كما قال تعالى :﴿والذين لا يجدون إلاّ جهدهم﴾ [ التوبة : ٧٩ ].