عليهم وذلك أنهم كانوا في الجاهلية بينهم إلا حن والبغضاء والحروب المتطاولة، فألف الله بين قلوبهم ببكرة الإسلام فصاروا إخواناً في الله متراحمين متناصحين، وذلك أن من كان وجهه إلى الدنيا فقلما يخلو من معاداة ومناقشة بسبب الأغراض الدنيوية، أما العارف الناظر من الحق إلى الخلق فإنه يرى الكل اسيراً في قبضة القضاء فلا يعادي أحداً ألبتة لأنه مستبصر بسر الله في القدر. فإذا أمر أمر برفق ناصح لا بعنف معير وكان حبه لحزب الله ونظرائه في الدين ورفقائه في طلب اليقين أشد من حب الوالد لولده، فكانوا كالأقربين والإخوان بل كجسد واحد وكنفس واحدة وقيل : يريد الإخوان في النسب.
وذلك أن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم، وكان بينهما العداوة والحروب، وبقيا على ذلك مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام، وألف بينهم برسول الله، فذكر الله تعالى تلك النعمة. وفيه دليل على أن المعاملات الحسنة الجارية فيما بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله تعالى حيث خلق فيهم تلك الداعية المستلزمة لحصول الفعل. قال الكعبي : إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعونة والألطاف لا بخلق الفعل. وأجيب بأن كل هذا كان حاصلاً قبل ذلك. فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم. هذا شرح النعم الدنيوية عليهم، ثم ذكرهم النعم الأخروية بقوله :﴿ وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ﴾ وشفا الحفرة وشفتها حرفها بالتذكير والتأنيث، ومنه يقال : أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حده وطرفه. وأنقذه واستنقذه خلصه ونجاه. والضمير في ﴿ منها ﴾ للحفرة أو النار أو للشفاء إما لأنه في معنى الشفة وإما لإضافته إلى الحفرة وهو بعضها وهو كقوله :


الصفحة التالية
Icon