يروى أن عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم، ورأى عليهم آثار العبادة، فقال ماذا تطلبون ؟ فقالوا : نخشى عذاب الله، فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه، ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم، فقالوا : نطلب الجنة والرحمة، فقال : هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر، فسألهم فقالوا : نعبده لأنه إلهنا، ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة، فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون (١)، فانظر في ترتيب هذه الآيات فإنه قال في الآية الأولى :﴿لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله﴾ وهو إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه، ثم قال ﴿وَرَحْمَةً﴾ وهو إشارة إلى من يعبده لطلب ثوابه، ثم قال في خاتمة الآية :﴿لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ وهو إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية، وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة، ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال :﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [ الأنبياء : ١٩ ] وقال للمقربين من أهل الثواب :﴿عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ﴾ [ القمر : ٥٥ ] فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه، واستئناسهم بكرمه، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته، وهذا مقام فيه إطناب، والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه.
(١) هذه الرواية تفتقر إلى سند.