الأول : وهو أن وقت النوم يضعف البدن، وضعفه لا يقتضي ضعف النفس، بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات، فإذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس، فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس.
الثاني : وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ، وجفافه يؤدي إلى الموت، وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الالهية، وهو غاية كمال النفس، فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن، وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن.
الثالث : أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن، وذلك لأن النفس إنما تفرح وتبتهج بالمعارف الالهية، والدليل عليه قوله تعالى :﴿أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب﴾ [ الرعد : ٢٨ ] وقال عليه الصلاة والسلام :" أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني "
ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس إلا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا، فإنا نرى أن الإنسان إذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان، أو بالفوز بمنصب، أو بالوصول إلى معشوقه، قد ينسى الطعام والشراب، بل يصير بحيث لو دعي إلى الأكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه، والعارفون المتوغلون في معرفة الله تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم إذا لاح لهم شيء من تلك الأنوار، وانكشف لهم شيء من تلك الأسرار، لم يحسوا ألبتة بالجوع والعطش وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية، وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن، وإذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن، ولتكن هذه الاقناعيات كافية في هذا المقام.


الصفحة التالية