واعلم أنه متى تقررت هذه القاعدة زالت الإشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه، وإذا عرفت هذه القاعدة فنقول : قال بعض المفسرين : أرواح الشهداء أحياء وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة، والدليل عليه ما روي أن النبي ﷺ قال :" إذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي" ".
واعلم أن الآية دالة على ذلك وهي قوله :﴿أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ﴾ ولفظ "عند" فكما أنه مذكور ههنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله :﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [ الأنبياء : ١٩ ] فإذا فهمت السعادة الحاصلة للملائكة بكونهم عند الله، فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند الله، وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة.
الوجه الثالث : في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للأجساد، والقائلون بهذا القول اختلفوا، فقال بعضهم : إنه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السموات والى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات اليها، ومنهم من قال : يتركها في الارض ويحييها ويوصل هذه السعادات اليها، ومن الناس من طعن فيه وقال : إنا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع، فاما أن يقال إن الله تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب اليها، أو يقال : إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله تعالى، ويؤلفها ويرد الحياة اليها ويوصل الثواب اليها، وكل ذلك مستبعد، ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد، فإن جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة.