كي تعلم أن الممَكّنَ لا يُمَكّنُ بذاته وإنما هو ممكن بمن مَكّنَهُ، فلو كان عنده تفكير إيماني، لما أغرته الأسباب أن يتمرد ؛ لأن الإيمان يعلمه أن الأسباب ليست ذاتية. ومن أجل أن يثبت الله أن الأسباب غير ذاتية فهو ينزع الملك ممن يشاء، ويهب الملك من يشاء، نقول له : لو كان الأسباب ذاتية فتمسك بها، لكن الأسباب هبة من الله ﴿ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ﴾ وحين يأتيه الله الأسباب فالأسباب أنواع : سبب مباشر للفعل، وسبب متقدم على السبب المباشر، فإنت إذا ارتديت ثوباً جميلاً، فوراء ذلك أنك أتيت بالقماش الذي نسجه النساج، والنساج استطاع إتقان عمله بعد أن قام الغزّال بغزل القطن، والقطن نتج لأن فلاحاً بذر البذور ورعي الأرض بالحرث والرى. فأنت إن نظرت إلى الأسباب المباشرة المتلاحقة فانظر إلى نهاية الأسباب، وستصل إلى شيء لا سبب له إلا المسبب الأعلى وهو الله - جلت قدرته -.
وسلسل أي شيء في الوجود ستجد أنك أخيراً أمام سبب خلقه الله، مثال ذلك النور الكهربائي الذي تتمتع أنت به. ستجد أن المعمل قام بصنع الزجاج الخاص بالمصابيح الكهربائية، ونوع من المصانع يصنع الأسلاك الموجودة بالمصباح، وستنتهي إلى شيء موجود لا يوجد فيه بشر، فتصل إلى الحق سبحانه وتعالى.
أنت مثلاً جالس على الكرسي. وقد تقول : لقد صنعه النجار والنجار جاء بالخشب من البائع، والبائع جاء بالخشب من الغابة، فمن أين جاء الخشب إلى الغابة ؟ تقول : لا أعرف، أما إذا كان عندك الحس الإيماني فأنت تقول : أوجده الله. وحين تنتهي الأسباب وسلسلتها نجد الله الخالق ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾ فعندما أعطاه الله الأسباب جاء هو بالوسائط فقط، إذن فالأصل كله من الله.