وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا : الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار، وهذان المعنيان أعراض، فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض، والأشياء المختلفة بالماهية لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم، فلم لا يجوز أن يقال : الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة، وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار ؟ وإذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها، قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها، وهي غير قابلة للتفرق والتمزق ؟ وإذا كان الأمر كذلك فتلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة، ثم إن الرياح العاصفة لا تمزقها، والأجسام الكثيفة لا تفرقها، أليس أن الفلاسفة قالوا : إن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد، وتخرج من الجانب الآخر ؟ فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها، وأنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة، والدليل لم يقم على إبطالها، فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها.
وأما الجواب عن الشبهة الثانية : أنه لا يجب حصول تلك الصداقة والعداوة مع كل واحد وكل واحد لا يعرف إلا حال نفسه، أما حال غيره فإنه لا يعلمها، فبقي هذا الأمر في حيز الاحتمال.
وأما الجواب عن الشبهة الثالثة فهو أنا نقول : لا نسلم أن القول بوجود الجن والملائكة يوجب الطعن في نبوة الأنبياء عليهم السلام، وسيظهر الجواب عن الأجوبة التي ذكرتموها فيما بعد ذلك، فهذا آخر الكلام في الجواب عن الشبهات.
دليل وجود الجن من القرآن :
المسألة الثانية :