ألا ترى أنه قال في الآية الأولى :﴿ألم ترإِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب﴾ [ النساء : ٤٤ ] ولم يقل : ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب، لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة، فلما قال في هذه الآية :﴿يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة، ومن كان كذلك فإنه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد ﷺ، لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل، ولهذا قال تعالى :﴿مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ﴾ أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد ﷺ، وإذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد، فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام جزماً، وأن يقرن الوعيد الشديد بذلك. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٠ صـ ٩٧﴾
وقال ابن عاشور :
أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم، وإقامة الحجّة عليهم، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وَزْع، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تَعِنُّ من فُرَص الموعظة والهدى إلاّ انتهزها، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل، وتبصّرها في الحق، فينجدوها حينئذٍ بقوارع الموعظة والإرشاد، كما أشار إليه الحريري في المقامة ( ١١ ) إذ قال :"فلَمَّا ألْحَدُوا المَيْت، وفَاتَ قولُ لَيْت، أشْرَفَ شَيْخ من رِبَاوَة، متَأبِّطاً لِهِرَاوة، فقال : لِمِثْلِ هذا فليعمل العاملون" الخ، لذلك جيء بقوله :﴿ يا أيّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نّزلنا مصدّقاً لما معكم ﴾ الآية عقب ما تقدّم.


الصفحة التالية
Icon